رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طى الغضب «2-2»

هوجة من التغيرات أشعر بها.. تغيرات كبيرة، ليست تغيرات فى موضات اللبس أو الشعر أو السماع، لكنها تغيرات فى القيم، فى التوجهات، فى مفاهيم الأمومة، الزواج، الحب والصداقة، الدين، الله. 

طبيعى أن يتغير الزمن لكن ليس بمثل هذه السرعة، أعترف بأن هناك أمورًا جديدة لم تكن موجودة فى زمن مراهقتى، لم يكن هناك: يسقط النظام، الشعب يريد إسقاط النظام، هذا التعبير لم أحبه، ولم أؤمن به، لا بد أن يوجد نظام، كيف يسير العالم دون نظام؟ أريد إسقاط الفساد، لا بد أن يوجد نظام صالح أو فاسد، ليس كل نظام يجب إسقاطه، هناك أمور لا تنفع فيها الديمقراطية مثل: تربية النشء. أثبتت لى علاقتى بأروى أن كل الأساليب الحديثة فى التربية فاشلة، طوال الوقت أشجع خطواتها، لكنها سريعة التقلب وسريعة الدخول فى نشاط والخروج منه، أتنقل معها من الباليه إلى التنس إلى الرسم إلى الاسكواش إلى الرماية، إلى السباحة، لم أكن أريدها بطلة رياضية، أردتها فقط أن تمارس أشياء تحبها.. أشعر بالفخر حين أراها تمارس ما أخفقت فى تعلمه كالسباحة.. تمارس السنوركلينج أو الغطس، لكن فى لحظة ما يحل الكسل، التسويف، عدم تحمل المسئولية والالتزام بمواعيد الامتحانات والدراسة وما يجب عليها القيام به. 

تقول لجدها: أتمنى أن تكون ذاكرة أمى قوية، حتى لا تكرر نصائحها لى فى الصباح والمساء، فأنا قد سئمت من المواعظ المكررة وغير المفيدة.

أنا لا أعظ ولا أنصح، أطلب طلبات تتجاهل أو تنسى تنفيذها، أغلقى النور، أغلقى الباب، اغسل أسنانك بالفرشاة لا تسيرى حافية القدمين، نظمى سريرك، هذه تفاصيل يومية من المفروض أن تفعلها دون أن أضطر لتكرار طلب فعلها مرة واثنتين.. وهى تتجاهل هذه القواعد، حاضر، حاضر.. ولا شىء يحضر، غير الغضب والتذمر الدائم، ما المطلوب عندما أجدها سهرانة طوال ليلة امتحان الثانوية تتابع حفل فرقة غنائية فى كوريا وهى لم تنته من مراجعة مادة «الكيمياء». 

حصرت نفسها فى مشاهدة الأنمى أولًا ثم مشاهدة المسلسلات الكورية، وآخرها الأفلام التايلاندية، سمعتها تقول لصاحبتها: شاهدت حلقتين بالأمس بعيدًا عن ماما حتى لا ترى بكائى من أجل الأحداث. 

البطة السوداء تحب فراخها السوداء وتطرد من عشها الفرخ الأبيض، لا يهمها إن كان الفرخ نسرًا أو بجعة، تحب البطة السوداء فراخها الذين يشبهونها، يمتد ظلها على الأرض، تحب البطة فراخها حبها للحياة، للأمل فى تجدد الحياة، للقدرة على إصلاح الأخطاء البيئية والجينية. 

أردتها بنتى، صاحبة، رفيقة، واعتقدت أننى إذا بذلت جهدًا كافيًا فيمكن أن أكسبها لصفى. 

كل شىء أطلبه تفعل عكسه، أحاول التقرب منها، لا أريد أن أركز على النتائج.. ماذا تعلمت اليوم؟ هل استمتعت باليوم فى المدرسة؟ أجتهد لأكون على صواب، أريد أن تعيش حياتها بطريقة صحيحة وصحية، فى كل الأوقات أسمع مخاوفى، ضعفى، إرهاقى الممتد، وليس أمامى غير الصمت لعله يحل الأمور. 

الفرق بين أروى وأبيها أنها تلعب دومًا دور الضحية التى ستعانى: «إذا لم تفعل ما أريده منك فسوف أعانى، وأنت من يتحمل مسئولية ذلك»، فى حين كان أبوها يتصرف بمنطق: «أنا وليكن من بعدى الطوفان». وبصرف النظر عما تشعر به أو تحتاجه يتجاهله، كل شىء عدا ما يريد.

أدركت بعد سنوات أننى ما زلت أسيرة هذه العلاقة وأننى لم أتحرر منها، فى عائلته يتحكمون فى كل ما يحيط بهم، كل شخص يتحكم فى الآخرين، عن طريق التأثير المتبادل الذى يمتلكه كل واحد على الآخر.. ثم اللجوء إلى إجبار الآخرين بالتعاطف، والابتزاز، الامتنان، الشعور بالذنب، والعرفان أو العنف المجرد.

كثيرًا ما كنت أتجاهل ابتزازه.. كأنها نوبة غضب تمر بطفل وستنتهى كما بدأت دون سبب، لكن ذلك لم يكن يعجبه، كان دائمًا يريد معركة، عندما أدركت كم التلاعب الذى تعرضت له والضغوط، قررت الرحيل، فأصبحت أنا الآن هادمة الأسرة، المجنونة، يكيل لى الاتهامات.. والنتيجة النهائية هى شعورى بالنقص والذنب. 

كان خبيرًا فى الدعاية السوداء، تلميذًا ألمانيًا، ولصاق التهم والنقائص، ويربط حوادث متفرقة كى تشكل الصورة التى يريد إقناعك بها، الغريب أنه كان فاشلًا فى الدعاية البيضاء لشركته لأن العملاء كانوا يكتشفون زيف الدعاية التى يقدمها وعدم تطابق ما يروج له مع ما يقدمه حقيقة، وإذا كشفه أحدهم، وطارت صفقة، يوجّه اللوم للعاملين معه، فهو ضحية إهمالهم وعدم مراعاتهم العمل، يصرخ: يا ربى لماذا وحدى الذى تفشل صفقاته؟ لماذا يكون الآخرون أكثر حظًا وسعادة ولديهم زوجات جميلات متفهمات؟

أنزعج من صراخه، وتنتابنى رغبة فى الهروب، فى النوم، أن ينقطع اتصالى عمن حولى، تنفك روابطى بهم، تتحلل، أتحرر من قيدهم.. أريد هدنة، استراحة، أستعيد فيها طاقتى المنهوبة المسلوبة، أشحن بطاريتى، كى أواصل ركضى النهارى اليومى فى المضمار الجهنمى، أريد فترة من الزمن يسترد فيها الجسم طاقته وحيويته المفقودة ليبدأ يومًًا جديدًا.