رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صدمة معالى العميد

كواحد من أبطال مسلسلات أسامة أنور عكاشة- أمثال د. مفيد أبوالغار أو المعلم زينهم السماحي أو السيد أبوالعلا البشري- خرج إلينا من إحدى بقاع الصعيد الأصيلة رجل أكاديمي امتلك من الشجاعة ما أهّله لأن يدق جرس إنذار ينبّه المجتمع كله إلى ما تشهده مؤسسة التعليم العام من عبث، تمثل في حالات غش جماعي ظاهرة للعيان، وتدل عليها نتائج ومجاميع غير عقلانية لا تتسق مع طبيعة الامتحانات ولا مع مستوى صعوبتها.

فقد امتلك د. علي عبدالرحمن غويل، عميد كلية طب قنا، من الشجاعة، ومعه مجلس الكلية، ما دفعهم لكشف حقيقة الأوضاع في نظام التعليم قبل الجامعي، بدليل مخرجاته من دفعة كاملة من الطلاب لم تستطع اجتياز امتحانات الفرقة الأولى بكلية الطب بأكثر من نسبة 28% من إجمالي عدد الطلاب، ثم فجّر الرجل المفاجأة المتوقعة واضحة الدلالة التي لم يجرؤ أن يصرح بها أحد قبله، إذ أعلن أن ٩٥٪ من الطلاب الراسبين جاءوا من مراكز ومدن ومدارس بعينها أدوا فيها امتحانات الثانوية العامة.

وهنا توقف الأستاذ الجامعي المحترم عن الخوض في مزيد من التفاصيل، تاركا هذه المهمة للرأي العام؛ ليتحرك بإعلامه وسُلطاته المتمثلة في اللجان المختصة في البرلمان بمجلسيه، فضلا عن مراكز البحوث التربوية والاجتماعية ليمارس الجميع دورهم في دراسة الأمر، ثم الخروج بتوصيات تنتهي إلى قرارات تعدّل من أوضاع الشهادات العامة كلها والشهادة الثانوية تحديدا، ويعيد تقييم طرق التقويم والامتحان التي سهّلت الغش وانتهت بهذه النتائج المؤثرة سلبا على مستقبل التعليم كله، ولا أقول التعليم الطبي وحده.

وقد اقتربت نسبة النجاح في كلية طب أسيوط من النسبة ذاتها، إذ بلغت 40% من إجمالي عدد طلاب الفرقة الأولى. أرقام دفعت د. يوسف الغرباوي، رئيس جامعة جنوب الوادي، إلى التحدث بعبارات محددة وصريحة وواضحة في الإشارة للجناة، والوقوف على أسباب ما حدث حين ذكر أن هذا الرسوب الذي بلغ نحو 70% يعود إلى ما يعرف بلجان الغش الجماعي في لجان الثانوية العامة. 

وهنا وجب على المجتمع كله الوقوف أمام الظاهرة، وتحتم على باقي العمداء في مختلف الكليات وفي كافة الجامعات، الشفافية والموضوعية كما فعل د . علي عبدالرحمن وأمثاله من شرفاء العمداء والأساتذة. نعم، فعلى الجميع أن يتحلى بالشجاعة ذاتها وأن يعلنوا النتائج الحقيقية في كلياتهم وبموضوعية شديدة تراعي وجه الله ومستقبل الوطن. ولا ضير إذا ضحينا بدفعة كاملة من خريجي الثانوية العامة لإصلاح حال المنظومة التعليمية، وإزالة ما علق بها من شوائب.

 وأحمد الله أنني كنت قد أشرت إلى ذات القضية في مقالي الماضي بالدستور تحت عنوان "يا طلاب الثانوية.. هل أفادتكم التجربة شيئا؟"، لتتفجر تلك المفاجأة بعد النشر بنحو أربعة أيام فقط، وللحق أقول إنني ما كنت أتوقع أن رجلا كعميد طب قنا سيمتلك من الشجاعة ما يدفعه لدق ناقوس الخطر وتنبيه المجتمع إلى التداعيات التي أدى إليها نظام امتحانات يحتاج إلى إعادة نظر، بل نظام تعليمي كامل يحتاج إلى دراسة جادة تقيّم نتائجه ومخرجاته قبل فوات الأوان.

ومع ذلك، لم يساورني الشك يوما أن الله يحب هذا البلد ويرعى أهله، فما نحن بصدده الآن دليل على هذا. فسرعة اكتشاف حقيقة هذا النظام التعليمي الذي نعمل به منذ ثلاث سنوات يجعل الحل متاحا قبل أن تتفاقم المشكلة وتكون عصية على الحل. وفي ظني أن الأمر سيستدعي إعادة تفكير جدية في طريقة لاستعادة الطالب والمدرس إلى الفصل الدراسي بالمدرسة، وفي يوم دراسي كامل بدلا من خروج العنصرين معا إلى قاعات الدروس الخصوصية، أو مواقع التقوية عبر الإنترنت. والأهم هو إعادة النظر في طريقة التقويم القائمة على فكرة الاختيار من متعدد التي لا تختبر كل مهارات التعلم وقدرات التفكير لدى الطلاب.

وعلى السادة النواب الذين سيبادرون بتقديم طلبات الإحاطة أو الاستجوابات حول تلك القضية أن يكون هدفهم ليس وزير التعليم العالي، ولا حتى رؤساء تلك الجامعات الشرفاء الذين امتلكوا الشجاعة لإعلان هذه النتائج واعتمدوها- دون محاولة منهم للتزييف أو سعي لغش المجتمع حتى ينجوا بأنفسهم- بل ينبغي أن توجه تلك الاستجوابات إلى السيد وزير التعليم بصفته، وذلك للسؤال عن طريقة التقويم التي أخرجت لنا هذا المستوى المتدني من الطلاب.

نظام الامتحانات وطريقة التقويم التي تتبعها الوزارة فتمنح بها شهادات تؤهل الطلاب للدراسة بهذه الكلية أو تلك. شهادات تُمنح لطلاب لم يقضوا في محراب العلم بالمدرسة يوما دراسيا واحدا خلال عام كامل. وفي المثل القديم قالوا "رُب ضارة نافعة"، فلعل ما نراه اليوم مشكلة يكون مدعاة للخروج من أزمة التعليم المتفاقمة منذ عقود طويلة مضت، ويدفعنا للبحث بجدية عن مخرج منها يعيد للتعليم قيمته، وللمدرس هيبته، وللمجتمع سمعته، وللناس ثقتهم في منظومة التعليم كلها.