رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دادة سهاد

تمنيت أن يكون شحاتة حاضرًا كى يؤكد حقيقة ما أرى أو أنها تخيلاتى، لا أنكر أننى كثيرًا ما أسمعها تنادينى فأرد بسرعة: نعم يا حبيبتى.

وبعد أن انتبهت للحقيقة وأنها هلوسات، أخذت أرد فقط بصوت منخفض، أو أقطم الكلمة الثانية «يا حبيبتى» وتظل الكلمة حلقة معلقة فى زورى، تضغط على عنقى، تخنقنى وتنتابنى نوبة سعال، لا يفكها غير أن أنفرد بنفسى، وأبكى. أبكى، تفك تشنجاتى ونهنهة البكاء الحلقة رويدًا.. رويدًا.

أن تفقد ابنك صعب ولكن يهوّن عليك أنك تعلم مكانه، وتعلم أنه فى رحمة الله، الأصعب ألا تعرف أين هو.. مَن يتعامل معه، كيف يأكل؟ يشرب؟

هل أحكى لشحاتة؟ حاولت أن أقول له، فوجئت بخوف شديد.. يمنعنى من الكلام.. هل لدىّ شك؟ أنا أعرف رائحتها، ابتسامتها علوية، ملكية، مرسومة.. ملابسها، الجوانتى، بياض ملابسها الناصع، خفت على كل هذا، إذا كانت هى فعلًا ابنتى فلماذا أنكرتنى؟ هى لم تتعرف على وجهى، لم تكن هناك دهشة، أو ربكة فى وجهها، كانت شاكرة، ممتنة فحسب لليد التى امتدت لها بكوب ماء، ربما مجرد تشابه، يخلق من الشبه أربعين، هل يمكن أن تكون توأمها، مَن هذه الفتاة؟ وأين ابنتى نجاة؟

يجب أن أتأكد أنها هى فعلًا، وبعدها لا أدرى ماذا أفعل؟ هل يمكن أن تكون قد عادت لأصلها.. لا أستطيع التفكير.

فى الصباح توجهت للبندر، اصطحبتنى الخياطة إلى بيت المأمور، قالت: غجرية، تقرأ الكف وتشوف الودع والهوانم الصغيرين يتسلوا. 

رحبت الهانم الكبيرة بنا، وطلبت أن أقرأ طالع البنات..

عندما أعطتنى كفها.. غصبًا عنى قبّلت باطن كفها.. أمامها طريق طويل وحياة طويلة، وستعيش فى نعمة محاطة بقلوب تحبها، كفها ملىء بالقلوب، والماضى عميق، لن تتذكر إلا ما يفرحها. 

حين تتكلم تلمع عيناها بفرحة، ولكن عندما تصمت تتجمع فى صفحة وجهها غيمة حيرة، كأنها تصارع أشباحًا لا تراها، لكنها كانت هانئة، لا تخفى شيئًا، هل فقدت ابنتى ذاكرتها؟ ربما، وربما تكون قد عادت لها.. 

- الهانم لهجتها مصراوية؟

- إحنا من حلوان، بنقضى فترة فى كل مديرية. 

سألت وديدة الخياطة: الهانم وبناتها الصغيرات خمريات، بينما الكبيرة بيضاء وشعرها أحمر.

- شبه البيه المأمور.

تأكدت أنها ابنتى..

ما زلت لا أعرف كيف وصلت إلى بيت المأمور، لا أريد أن أعرف، المهم أن أرحل من المنيا وألا أعود لها، ماذا إن رآها أحد من معارفنا، لا أريد لها أن تخرج من هذه الجنة، يمكن لأحد أن يراها، لكن استمرار وجودى هنا سيربط بيننا وبينها، ما الذى كنت أريده، أن أطمأن عليها، أنا اطمأننت، ليست هاربة مع جدع صايع، إنها هانم مخطوبة لبيه ابن باشوات، الثورة تقوم، الثورة تقعد.. العالى هيفضل عالى.. 

- شحاتة، أنا تعبت من هنا. 

- مليتى الانتظار؟ 

هو نفسه نسيها، لا يأتى على ذكرها.. 

- ضاعت مكان ملقيناها. 

- لا يريد أن ينسى أننا وجدناها رضيعة بجوار دير العدرا فى جبل الطير، لكنها لم تضع، وها هى تستقر فى مغاغة.. 

بعد كل هذه السنوات، يمكن الآن أن أذهب لأختى، ربما ما زالت تحتاجنى، أو على الأقل تتوسط لى للعمل عند سيرك عاكف أو الحلو، المهم أن أبعد عن هذا المكان وأدفن هذا السر فى قلبى. 

انتقلنا للقاهرة، عملنا فى السيرك فى العجوزة. بعد أعوام قليلة تزوجت عفاف من مسئول عسكرى، اعتزلت عفاف وماتت شابة صغيرة مصابة بالسرطان. 

واكتفيت بما تركته لى عفاف من مال فى صندوق البريد، اشترت لى بيتًا فى باب اللوق، تعيشى فى شقة وتعيشى من إيجار بقية الشقق. قطع زوجها كل صلاته بالسيرك وأخذ ابنتهما وسافر للخليج.. جاءت زوجة أبى، وأقامت معى.

شاهدتها مع زوجها.. فى هذه المرة ابتسمت لى، وفى عينيها لهفة وكان وجهها بحرًا يموج بالانفعالات.. ظللنا ننظر لبعضنا.. 

- ساكنة فين؟ عنوانك فين؟ 

- باب اللوق. 

- وفى الصباح، وقبل أن أفيق من نومى، وجدتها تدق علىّ الباب وارتمت فى حضنى. 

ترددت علىّ.. واستأذنت أن أزورها فى فيلتها بالمنيل.. تكررت زيارتى لها، ما زلت الغجرية التى تقرأ الودع وقابلتها فى المنيا وتنبأت لها بطول العمر، طال غيابها عنى، أستفسر: 

يقول البيه: الهانم تعيشى إنت. 

- لكن ابنة حبيبتى تصرخ: لا ماما طارت. 

استأذنت الباشا أن آتى لرعاية الهانم الصغيرة، حفيدتى، وأصبحت من وقتها: دادة سهاد.