رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النوستالجيا القاتلة!

تعني النوستالجيا "حبًا شديدًا للعصور الماضية بشخصياتها وأحداثها".. راقني هذا التعريف المختصر الجامع لها من بين تعريفات كثيرة حاولت أن تحصر معنى الكلمة، يونانية الأصل، في بضع كلمات يحويها سطر صغير.
ما من أحد تقريبًا لا يحن إلى الماضي بقوة، ولهذا فوائده التي ذكرها النبهاء معددة ومرتبة بحسب أهميتها، لكنني هنا أريد التركيز على أضرار الحالة النوستالجية، لا سيما وقد تم تصنيفها "مرضًا اكتئابيًا في بدايات الحقبة الحديثة"، كما أوردت المصادر وكما قد يكون معروفًا، ومن أضرارها الكبرى، في هذه الحالة المرضية، أنها تفصل الإنسان المصاب بها فصلًا حادًا عن واقعه الحاضر، تعزله عن عصره بالكلية، وتقيم بينه وبين مجتمعه وعلوم وقته سدًا!
يبدو الشخص النوستالجي شاردًا عن محيطه القريب كما لو كان مصابًا بالفصام؛ لا تثريب عليه طبعًا، فهو في مكان بعيد إلى الخلف، والمشكلة الحقيقية أنه غير منجذب إلى ما يعيشه، وبالتالي لا يكون فاعلًا فيه البتة، بل يمكنه جر الآخرين إلى خانته من خلال تبغيض زمنهم إليهم ومدح الزمن الذي استقرت عنده أخيلته (ما أجمل أجواء الماضي! يا لجمال تدين الماضي! أكرم بأخلاق الماضي!).. أتحدث عن النوستالجي المعتل لا العادي؛ فكما سبق وقلت كلنا نحنّ إلى الماضي، لكننا لا نمكث هناك بالضرورة، ولكن يمكث من يكون معتلًا بالفعل!
كثيرًا ما تدعم الأزمات الواقعية المتفاقمة حالة النوستالجيا عند شخص أو مجموعة أشخاص، بحسب طبائع الأزمات طبعًا وخصائص الشخص النفسية أو المجموعة، هذا الجزء بالذات ربما كان مرادي من الكتابة في هذا الشأن أصلًا، فمن المستحسن أن نحرص جميعًا على تخفيف أعباء الخلق ما أمكننا الأمر وفوق الإمكان لو استطعنا؛ لأن الهموم التي تنشأ من الضغوط المتتالية تجعل البشر ضعفاء ومخترقين بسهولة، لكننا لو ساعدناهم بإزاحة الأثقال عن الصدور أولًا بأول، فإن الغيوم تنقشع والسماء تصفو والعقل ينتبه والقلب يشاهد.
الحياة حبل ممتد، نتجمع زمنيًا عند طرف من أطرافه، والمعنى أنه ينتظمنا جميعًا مع زمننا، بجملة الآلام والآمال، غير أننا ما دمنا في طرف أمامي حاليًا (الفترة الحاضرة)، فلا يجب أن ننتقل إلى الوراء (الفترة القديمة)؛ هكذا لأن سنواتنا أولى بنا ونحن أولى بها، تعرفنا ونعرفها، ولأن الخير المتصور في أزمنة سابقة غالبًا لا يكون كما تصورناه، بل قد يكون شرًا محضًا على عكس التصور، وعلى هذا فلو أعادتنا إليه "آلة زمنية" مثلًا فحدوث الصدمة وارد جدًا.. بل حتى التطلع إلى الأمام المتقدم، وهو محمود بلا ريب من حيث كونه استشرافًا للمستقبل الذي نحن مقبلون عليه لا محالة، لا بد أن يكون ذكيًا ومحسوبًا، وإلا قاد الإنسان إلى هلاك أكيد. ليتنا نلازم سنواتنا الحاضرة ونطمئن إليها اطمئنانًا كافيًا فنربح خير الوجود.