رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نهارات البطريق الحزين

روبير الفارس
روبير الفارس

أسلخ جلد البطريق بأظافرى الملوثة وأكتم رقة القلب فلا ترى عذابه، ولا تحن إلى توجعه، وبالقسوة نفسها أضيف بعض الملح الأبيض والفلفل الأسود فوق لحمه اللذيذ. وأبدأ فى النهج بمتعة لا توصف وأنا أمضغ جسد الطائر الحى، فيتلوى وينكمش ويذوب. ودماؤه تنتشر على كنبة الصالون المذهب. وبين نهشه وانتفاضه تنظر عيناه إلى داخلى فتتناسخ روحه بين ضلوعى ويصير واحدًا فىَّ وأنا فيه. الراهب «جرجس البجشونى» بالجلباب الخشن الأسود الطويل، والكاهن الرافع يديه إلى السماء بالثوب الحريرى الأبيض. بطريق فى ثلج الزمن ثقيل ولا يطير. يرتعش باستمرار بحثًا عن حل رمادى لا يأتى أبدًا، وشمس البر مطرودة من أرضه.

هكذا وضعت نفسى بين خطين فى تابوت من البرودة بعد أن هاجرت، منعنى جبنى وخوفى من نار الآخرة عن الانتحار. كنت قد قرأت عن الرهبان والموت عن العالم، وسيطرت الفكرة على كيانى، فأنا لن أحب بعد «مريم»، وهذه هى البتولية فى عرفى، وهذا موت سهل المنال. دخلت الدير. راهب عجوز يدعى برسوم حملت حياته على ذراعى، وكنت أنظفه من البراز والعته، فهذا هو الاختبار للدخول إلى عالم الموتى الأحياء، وبالفعل.

اقتنع بى رئيس الدير الأنبا يونان، ودعانى فى إحدى الأمسيات إلى كنيسة العذراء الأثرية فى الدير القديم، ورقدت أمام الهيكل، حيث غطانى بستر أحمر بال وبطقس محفوظ من آلاف السنين. وقرأ فوقى صلاة الراقدين التى لم أسمع منها كلمة واحدة، فكنت فى حالة التهاب عاشق لـ«مريم» المغزولة من نار لحمية مع القليل من الطبائع البشرية المتكررة. وأخذت فى سرى أردد محاور شجاعتى كنت قد وعدتها بالموت إذا تركتنى، وها أنا ذا أفعل. كل شىء جاهز. أنا راقد والستارة كفن والأسقف يصلى ويطلب لى الرحمة والتغاضى عن جهالاتى وخطاياى، ولكن انتهت المراسم والكلمات ونفضوا عنى الستار، فقلت: ما هذه الخدعة التى لن تقنع أهدابها الساحرة بل سوف تشبعنى سخرية لاذعة؟!

لقد غيروا اسمى من «نبيل» إلى «جرجس». ونسبونى إلى الدير بدلًا من اسم أبى، ولكن أنا حى. يبدو أن سر الحياة الذى أعطتنى إياه فى قبلة شهوانية تحت بئر السلم أقوى من ادعاء الموت. يقتلنى التناقض: «أنت ميت ولك اسم حى». هذا هو الجزء الأسود فى جسد البطريق الضعيف المبلول بالحب دائمًا، أما البطن الأبيض كلبن الحليب، مفارق الطريق إلى نهديها ونعومة الشهد المتجدد فى لمسة يديها النقية، كان يوم اختيارى كاهنًا للخدمة وإقامة الصلاة فى كنيسة أبى سيفين فى مقر الدير.

بعد انتهاء القداس أخبرونى بوجود رحلة على متنها عدد من أقباط المهجر، والإشارة هدفها مزيد من الاهتمام، وقص الكثير من العجائب والبركات والمعجزات مع الكرم فى منح زيوت البركة وحنوط القديسين للحصول على محصول تبرعات خضراء، واستقبلت الرحلة لأجدها بين الزوار، عيناها نزعتا عنى الثوبين وفوق كنبة الصالون الذهبى سكبت مزيدًا من التوابل والبهارات واشتركت معى فى أكل لحم البطريق الحى الذى أخذ يصيح بصوت مبحوح مكشور: «كيريالصون.. يا رب ارحم. يا رب ارحم».