رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الدستور» فى زيارة لـ«رهبان الصحراء».. منفى اختيارى لأجل «الرب» ونجدة الضائعين (معايشة)

الدستور خلال جولتها
"الدستور" خلال جولتها في الدير

انطلق مذياع السيارة منبهًا عن حالة طقس سيئة تضرب البلاد بارتفاع كبير في درجات الحرارة ورياح مثيرة للأتربة والرمال حسبما توقع المتنبئون بهيئة الأرصاد الجوية، ليبدو المشهد وكأنه يتكرر كما حدث في القرن الرابع الميلادي، حين هاجم البربر بتحريض من الرومان رهبان وادي النطرون وذبحوا نحو 49 راهبًا، ولم يكتفوا بذلك بل ألقوا جثامينهم في بئر ثم غسلوا سيوفهم بها واستولوا على ما تمكنوا من سرقته ولاذوا بالفرار.

لم تختلف الحالة نفسها عن كون المنطقة كانت ملاذًا لفرار السيد المسيح ووالدته مريم العذراء من الأهوال التي طاردتهم ودفعتهم لرحلتهم المقدسة إلى مصر، ليكون شاهدًا على أحداث متتالية منها الدامية التي نقلتها روايات متواترة قديمة، كل تلك الروايات القديمة المتواترة عن هذه الأحداث الدامية لم تثن رهبان أديرة وادي النطرون عن إطعام عابري السبيل والغرباء والعمال وقطاع الطرق، تأثرًا بمقولة مرقس الرسول: «إذا جاع عدوك فأطعمه وإذا عطش فاسقه».

«الدستور» زار هذه المنطقة وتعايش مع رهبان أحد تلك الأديرة وهو «ما رمرقس الرسول والشهيد أبسخيرون القليني» المترامي على أطراف طريق العلمين ويبعد عن شمال غرب القاهرة نحو 140 كيلومترًا ويجود رهبانه بكل من يمر عليهم أو بجوارهم بمحبة وكرم كبيرين دون مقابل.

(1)

حين يتقدم أحد المسيحيين للرهبنة فيعد ذلك موتًا إكلينيكيًا، لأنه حيا في السجلات المدنية والجهات التي تتيقن من موته بشهادة وفاة مختومة رسميًا، وموته هنا يعني الانعزال التام عن العالم الخارجي «أنت هنا من أجل الرب» وبالتالي لست وحدك الميت، لكن والدك ووالدتك ورفاق الصبا وأصحاب الضحكة وجلسات السمر، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون في جسدك عضو يشعر بالحياة، فبالرغم من عمل أعضاء الجسد بكفاءة تامة لكنها في عرف الجميع ميتة، لذلك من الطبيعي أن يعرف الراهب خبر موت من كانوا قديمًا من أهله وذويه ولا تتحرك فيه شعرة، وطبيعي أن يعلم بموت من كان صديقه الوحيد حتى الذكريات لا يسمح لها بأن تطفو على السطح، وهناك حالات قليلة ينسى الراهب فيها قلبه أو أن القلب ينجو من الموت، فتطفو عليه المشاعر ويؤجج في صاحبه الذكرى، وهذا ما حدث مع رهبان سمعوا بموت آبائهم ودق قلبهم بقوة معلنًا عن رجوعهم للحياة برغم باقي الجسد الميت، بل إن هذا العضو (القلب) جر باقي أعضاء أجساد أصحابه ليطلب من رئيس الدير الإذن لزيارة المنزل - (لأن الرهبان لا تطأ أقدامهم خارج أسوار الدير مهما جرى فى الخارج إلا فى الأمور الطارئة للغاية وبإذن مباشر من رئيس الدير) - فى ذهابه إلى بيته (الدنيوي).. إلى طفولته.. إلى حياته القديمة، لمدة لا تتجاوز دقائق معدودة، لكن القلب يكفيه مجرد الحياة ولو لدقائق.

هكذا أخبرني الدليل الذي اصطحبني إلى داخل أحد أقدم حصون صحراء وادي النطرون وهو «دير القديس مارمرقس الرسول والشهيد أبسخيرون القليني» الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن الرابع الميلادي ويعتبر واحدًا من أقدم الأديرة في العالم.

ويستكمل الدليل حديثه: «تمت تسمية الدير على اسم القديس مارمرقس الرسول الذي يُعتقد أنه كان أحد تلاميذ القديس بطرس الرسول، وأن ما رمرقس الرسول هو من أسس الكنيسة القبطية في مصر».

(2)

على مشارف الدير في عمق الصحراء بطريق وادي «النطرون - العلمين» في الكيلو 115 تستقبلك بوابة عملاقة تشبه «بوابة الأساطير»، وهي المدخل الرئيس للدير بجانب منارتين كل منهما مشيدة على طراز معماري قبطي قديم كأنهما حارسان عملاقان، ويحاط بسور يصل ارتفاعه إلى 5 مترات من الطوب الحجري «اختفت معالمه الآن» وهو حجر مميز عبارة عن 20 سم * 40 سم، والسور مبني بقواعد وأعمدة خرسانية وفي نهايته طباند بالخرسانة المسلحة.

هناك، تقف حافلات وسيارات خاصة خارج بوابة الدير وممنوعة من الدخول بأمر من رئيس الدير شخصيًا، هكذا قال الشاب الذي كان يحرس البوابة للدليل الذي كنت رفقته.

في الساحة الكبيرة بمدخل الدير لن تشعر بالقلق والرهبة، لأن تمثالًا عملاقًا للمسيح يفتح ذراعيه فى انتظار المقبلين على الدير، لا تؤثر فيه عواصف أو أمطار أو حتى حرارة الجو المرتفعة وعلى يساره طريق من ناحيتين يؤدي بالزوار إلى 3 كنائس أولاها القديس ما رمرقس الرسول والشهيد أبسخيرون القليني، والثانية كنيسة السيدة العذراء مريم، والثالثة كنيسة الثلاثة فلاحين.

والثلاث كنائس شيدت وبجانبها 17 قلاية ومائدة للرهبان ومعمودية، وسكن للعمال والضيوف، واستراحة لكبار الزوار ومبنى لضيافة الآباء الكهنة، بالإضافة إلى دار ضيافة الدير لاستضافة الزوار والوافدين ويسع لحوالي 700 فرد، كما يستقبل يوميًا حوالي 1500 من الزائرين.

في مبنى واسع تملؤه طاولات الطعام الدائرية المحاطة بكراسي لاستقبال الزوار أو المعروفين بـ«شعب الكنيسة» وبنهايته فتحتا مطبخ على الطراز القبطي تطلان على القاعة، الأولى للطعام والثانية للمشروبات.. ظللت أحدق في زجاجات زيت الطعام الموضوعة منفردة على كل طاولة وعلمت فيما بعد سرها كون أن الوجبة المقدمة للزوار من قبل الدير هي «الفول» ويُزرع بمزارع الدير، فكل فرد له طبق فول وعدة أرغفة خبز، ولذلك يتركون خيار كمية الزيت الموضوعة للزوار.

 

على أحد الكراسي الملتفة حول الطاولة التى جلست عليها استقر الراهب القمص لوكاس الأنبا بيشوي، رئيس الدير، مرتديًا زيه الأسود بكامل جسده وغطاء الرأس، وإلى جواره أمين الدير وهو الراهب كاراس أفا مرقس، قبل أن نشد أطراف الحديث اعترضنا مجموعة من الشباب والفتيات لأخذ البركة من رئيس الدير، ولم يبدأ في الرد على أسئلتنا إلا بعد الرضوخ لشرطه بالتشارك في طعام الإفطار.

سألت رئيس الدير الراهب القمص لوكاس: «من صمم هذه المباني الجميلة في مدخل الدير، الكنائس، المكتبة، قاعات الزوار والقلالي وغيرها من تلك القطع الجمالية؟ ولم يرد، لكن أمين الدير الراهب كاراس رد عنه بابتسامه كشفت عن وجهه الشاب «كل تلك المباني ذات التصميم البديع من تصميم وتخطيط أبونا لوكاس، فهو مهندس معماري ولذلك كلفه البابا تواضروس بتصميم الإنشاءات والتخطيط للأبنية والطرق في الدير بحكم كونه رئيسًا للدير»، وأشار بيده إلى صورة تجمع البابا تواضروس برئيس الدير القمص لوكاس وهما يستعرضان مراحل العمل بالدير».

رئيس الدير استكمل الحديث عن الخدمات التي يقدمونها للمارة وعابري السبيل وعمال المزارع من جيران الدير، متذكرًا موقفًا لم ينسه حينما تعطلت سيارة تقل أسرة مسلمة كانت فى طريقها من العلمين إلى القاهرة على مسافة نحو 3 كيلومترات وحينما فشلوا فى إصلاحها ومع طبيعة المكان التي تكون صلدة وقاتمة ليلًا لجأوا إلى محطة وقود (بنزيمة) على الطريق المواجه في الناحية الأخرى من الطريق المطل على الدير لطلب المساعدة في إصلاح السيارة ولم يجدوا فنيًا أو مساعدة سوى عمال المحطة ولم يتمكنوا من فعل أي شىء، إلا أنهم بعد مرحلة من التخوف والتفكير لجأوا للدير وطرقوا أبوابه وتم استقبالهم وإكرامهم وطمأنتهم لدرجة أن الدير كلف سيارة أخرى لكي تقلهم للقاهرة وظلوا على اتصال معهم حتى عادوا، وفي اليوم الثاني تمكن عمال الدير من إصلاح السيارة الخاصة بتلك الأسرة وإرسالها إليهم فى القاهرة وسط استغراب كبير من تلك الأسرة على ما فعله رهبان الدير معهم.

ولفت رئيس الدير الراهب القمص لوكاس إلى أن الدير يعد مركزًا دينيًا وثقافيًا مهمًا، حيث يستقبل الزوار والحجاج من داخل مصر ومن جميع أنحاء العالم باعتباره واحدًا من الوجهات السياحية المهمة في مصر، حيث يمكن للزوار استكشاف أجواء الدير التاريخية والاستمتاع بالمناظر الطبيعية الخلابة المحيطة به وبداخله خاصة مزارع أشجار الزيتون والموالح ومعمل التخليل (صناعة المخللات)، بالإضافة إلى منحل لتربية النحل لاستخراج عسل النحل، ومزارع للدواجن والحمام والأرانب والماشية، حيث يتم بيع تلك المنتجات بعد تحقيق الاكتفاء الذاتي للدير عبر منفذ لبيع تلك المنتجات الحيوانية والزراعية في مدخل الدير للإسهام في تحقيق الأمن الغذائي للدولة.

"الدستور" أمام منافذ بيع منتجات الدير

(3)

تخيل أن يعيش كل حياته على أمل أن يكون طبيبًا "قد الدنيا" ويشرف عائلته ونفسه، وحين يصل لمبتغاه بعد سنوات عجاف ويصبح طبيبًا لا يجد سوى قبض ريح ويهجر الدنيا ويسلم نفسه للرهبنة بلا زواج أو أصدقاء أو أي شيء دنيوي آخر.

حينما علمت أن أمين الدير الراهب كاراس أفا مرقس كان في السابق طبيبًا، جلست موجهًا نظري صوب عينيه، متسائلًا: «ما الشيء الذي يجعل طبيبًا في مقتبل العمر يترك كل شيء خلفه ويتجه للرهبنة، هل تكفير عن ذنب سابق أم ما الذي كان يدور في قلبك وعقلك حينما أقدمت على تلك الخطوة؟»، ابتسمت وجنتاه ثم بدأ في الحديث، مطالبًا بأن أكتب هذه الجملة لأنها - حسب وصفه - الذي لن يجدها أحد في الكتب والمراجع: «رغبة في قلب الإنسان مدعمة من الله».

ولفت أمين الدير الراهب كاراس إلى أنه منذ كان في الثانوية العامة وهو يتردد على الدير وكانت لديه رغبة في قلبه للرهبنة وترك الدنيا، وانتظر بعد حصوله على بكالوريوس الطب وطلب من أسرته أن تأذن له بالموافقة، لأنه أحد أهم الشروط الخاصة بالرهبنة هي موافقة الوالدين ويكون ذلك برضا تام، ثم بدأ حياته فى مرحلة الرهبنة الذى قال عن الشروط التي يتطلب توافرها في الراهب بأنه على طالب الرهبنة التردد على الدير ليتعرف على الرهبان لمدة عام، بمتابعة من مشرف الدير للمتقدمين لطلب الرهبنة، ويجب أن يكون مسيحيًا أرثوذكسيًا، وله أب اعتراف ومنتظم فى ممارسة أسرار الكنيسة، وأن يكون على معرفة ودراية كبيرة بعقائد الكنيسة وتاريخها القديم والحديث، ويجب ألا تزيد سن المتردد على 30 سنة ولا تقل عن 23، ويشترط حصوله على مؤهل عالٍ ومثقف بشكل عام، ويتردد على الدير من حين لآخر لتجربة الأمر.

أمين الدير أضاف: «بعد ذلك تأتى المرحلة الثانية الالتحاق كطالب للرهبنة وهنا يرتدى زيًا باللون البنى ثم الأزرق لتجربة الحياة الرهبانية، حيث يخضع طالب الرهبنة للاختبار من رئيس الدير، وبعد مرور عام عليه، ويتأكد المشرفون أنه حقا جاء دون ضغط أو حاجة لشيء ما، فيتم استيفاء أوراقه الرسمية وتزكية مباشرة من أب الاعتراف، لافتًا إلى أن ذلك يتم إلى جانب خلوه من أي شىء يعوق الحياة الرهبانية، وبعد ذلك يرتدي طالب الرهبنة زيًا باللون البني ثم يتدرج ليرتدي الأزرق، ويراعى خلال تلك الفترة أن يتم تغيير العمل المسند له كل 3 شهور، ويجب أن يمر على جميع أنشطة الدير وخدماته لمدة عام».

(4)

أخبرنا الرهبان أن للدير أكثر من اسم يشتهر به من ضمنها «دير الزجاج» نظرًا لتصنيع الزجاج في المنطقة، و«دير الأمراء» نظرًا لأن الأمراء وكبار الرهبان كان يأتون من الخارج للإقامة في الدير، و«دير الآباء» لأنه من مجمع رهبان الدير خرج 6 من بابوات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية و16 أسقفًا، لافتين إلى شهرة وادي النطرون بأنها منطقة «الآباء الصحراويين» وهم مجموعة من الرهبان المسيحيين الذين انتشروا في صحراء النيتروية وصحراء القديس أنتونيوس في مصر، خلال الفترة المبكرة للمسيحية، يعود تاريخهم إلى القرن الرابع الميلادي، ويعتبرون رموزًا بارزة في التاريخ الرهباني المسيح، وعلى رأسهم القديس أنتونيوس (251-356م) الأب الروحي للحركة الرهبانية الصحراوية بعدما قضى معظم حياته في الصحراء المصرية، حيث عاش حياة متواضعة ومنعزلة تكرس للصلاة والصوم، ويعتبر أنتونيوس قدوة للرهبان بسبب تفانيه في التقشف والتضحية الذاتية.

أما القديس باخوميوس الكبير (300-390 م) وهو رهباني صحراوي آخر يُعتبر من رواد الرهبانية الصحراوية، كان رجلًا عمليًا ومنظمًا وقد أسس نظامًا للحياة الرهبانية في الصحراء يشتمل على أعمال يدوية وصلوات متواصلة. كما أن هؤلاء الآباء الصحراويين كانوا يسعون إلى التقرب من الله من خلال العزلة والتأمل والتقشف. كان لهم تأثير كبير على الحركة الرهبانية والحياة الدينية في الفترة الأولى من التاريخ المسيحي، ومبادئهم وأساليبهم الروحية ما زالت تؤثر حتى اليوم في الحركة الرهبانية والممارسات الروحية للمسيحيين.

أما سبب تسمية الدير باسم دير القديس مارمرقس الرسول والشهيد أبسخيرون القلينى - بحسب المراجع الكنسية - هو أن القديس مار مرقس الرسول أول من أدخل المسيحية إلى مصر، وبذلك يُعد هو أول بطريرك في تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، والذي جاء إلى مدينة الإسكندرية على الأرجح سنة 60م، من الجهة الغربية قادمًا من الخمس مدن الغربية بليبيا، وسافر إلى مصر وأسس كنيسة الإسكندرية بعد أن ذهب أولًا إلى موطن ميلاده "المدن الخمس" بليبيا، ومن هناك انطلق إلى الواحات ثم الصعيد ودخل الإسكندرية عام 61 م.

ولقب بمرقس - بحسب المراجع القبطية - لأنه بعد نزوح والديه إلى أورشليم (القدس) حيث كان بطرس تلميذًا للسيد المسيح، ولأن بطرس كان متزوجا بابنة عم أرسطو بولس فكان مرقس يتردد على بيته كثيرًا ومنه درس التعاليم المسيحية. وحدث أن أرسطو بولس وولده مرقس كانا يسيران بالقرب من الأردن وخرج عليهما أسد ولبؤة وهما يزمجران فخاف أبوه وأيقن بالهلاك ودفعته الشفقة على ولده أن يأمره بالهروب للنجاة بنفسه ولكن مرقس طمأنه قائلًا لا تخف يا أبي فالمسيح الذي أنا مؤمن به ينجينا منهما. ولما اقتربا منهما صاح بهما القديس قائلًا "السيد المسيح ابن الله الحي يأمركما أن تنشقا وينقطع جنسكما من هذا الجبل" فانشقا ووقعا على الأرض مائتين فتعجب والده وطلب من ابنه أن يعرفه على المسيح فأرشده إلى ذلك وآمن والده وعمده بالسيد المسيح له المجد.

وحظي القديس مرقس دون غيره من البطاركة باسمين هما يوحنا وهو اسم عبري معناه "يهوه حنان"، ومرقس اسم روماني معناه "مطرقة" ومن ألقابه الإنجيلي لأنه كتب إنجيل مارمرقس الخاص به، والبشير لأنه بشر وكرز بالمسيح في أكثر من بلد ومكان كما أنه كتب لنا البشارة الخاصة به، والشهيد لأنه استشهد وسُفك دمه في شوارع الإسكندرية على اسم المسيح، وكاروز الديار المصرية لأن له الفضل الأكبر في الكرازة باسم المسيح في مصر، والرسول لأن السيد المسيح اختاره ضمن السبعين رسولًا، مبدد الأوثان في كل مكان وفي كل موضع ذهب إليه مارمرقس كان يضىء نور المسيح الإله ويفتح طريق الملكوت أمام الجميع، حيث إن كل موقع وكل بقعة وطأتها قدما مارمرقس كان يبدد ويسقط الأصنام ويقيم مذبحًا للرب القدوس، وناظر الإله لأنه يُعد من أكثر التلاميذ الذين عاشوا حياة سيده المسيح ومعجزاته عن قرب فهو عاش مع رب المجد وسار معه في كل مكان وعاين خدمته ونظر أعماله ومعجزاته وكان شاهدًا لآلام السيد المسيح، والبطريرك لأنه أول بطريرك.

(5)

سويعات قليلة من النوم هي التي ترتاح فيها جفون وأجساد رهبان الدير، خاصة أن يومهم يبدأ في الرابعة فجرًا، حيث صلاة التسبحة التي تعد نور اليوم بالنسبة له وتستمر حتى السادسة تقريبًا، ثم يقيمون قداس الصلاة حتى السابعة صباحًا، ويلحقونه بقداس آخر للصلاة لشعب الدير ممن يزورون الدير للتبرك بمقدساته، وينتهي في الثامنة صباحًا، وبعدها يتوجه كل راهب لقلايته للتأمل والصلاة منفردًا لا يتحدث مع أحد، لأنها خلوة بينه وبين الله، ثم يخرج كل إلى خدمته سواء كانت في أعمال ترجمة أو أشغال الزراعة ومزارع الحيوانات أو مناحل العسل أو كذلك فى ورش النجارة.

ولفت رهبان الدير إلى أنهم يتجهزون للتخطيط الخاص بعيادات طبية في الدير لمداواة أي مريض سواء من الزوار أو العابرين المستنجدين بالدير، لا سيما أن المكان صعب وأقرب مستشفى بعيدة عنهم، موضحين أن ما يميز الدير أنه لا يغلق أبوابه في الصباح أو المساء أمام أي محتاج.

ويعتبر الدير مركزًا للتعليم والتعلم الروحي. تتم قراءة الكتاب المقدس وكتب الآباء الكنسيين والكتب الروحية الأخرى، وتقديم الدروس والمحاضرات التي تساهم في نمو الروحية والمعرفة الدينية، حسبما قال أمين الدير القص كاراس أفا مرقس لـ«الدستور».

وضمن جولتنا في دير مارمرقس الرسول والشهيد أبسخيرون القليني اصطحبني أمين الدير إلى مكتبة ضخمة، حيث ترجم رهبان الدير أقدم نسخة من «الكتاب المقدس» من اليونانية إلى السوريالية واستغرق شهورًا طويلة ليتم الانتهاء منه، إضافة إلى عدد من الكتب أشهرها «البابا هو الرئيس الأعلى لدرجات الكهنوت، الإعجاز في الكتاب المقدس.. رموز الأرقام.. بصلمودبية الكيهكية المقدسة.. بستان الرهاب.. دير رئيس الملائكة ميخائيل الهامر بجبل أخميم الشرقي.. مسابقات في الكتاب المقدس.. الطب والصيدلة في الكتاب المقدس.. السنكسار».

المكتبة الضخمة التي تحتوي على مخطوطات وكتب قديمة وحديثة، تشمل عدة أركان للهدايا التذكارية والرمزية لصور العذراء والمسابح والأيقونات والميداليات وحتى الألعاب لكي تتناسب مع الكبار والصغار، كذلك تماثيل مصنوعة من الخشب وتابلوهات لصور مارمرقس والبابا شنودة وغيرهم من الشخصيات الكنسية.

(6)

وبشأن الجزء الثاني من اسم الدير "الشهيد أبسخيرون القليني"، بحث "الدستور" عن قصته فى المراجع المسيحية واتضح أن البعض ينطقه "أباسخيرون" أو "أبسخيرون" وهي في الأساس مشتقة من كلمتين: "أبا" معناها "أب"، و"سخيرون" "أسشيروس" أو "إسكاروس"، معناها "القوي". وُلد بقلين محافظة كفرالشيخ، وكان جنديًا شجاعًا محبوبًا، له شهرة واسعة ومكانة بين رفقائه ورؤسائه، من جنود الفرقة التي كانت بأتريب فى مدينة بنها.

وتعود قصته إلى وقت إصدار الإمبراطور الروماني السابق دقلديانوس منشورًا بالذبح للأوثان في كل أنحاء الإمبراطورية، وما إن تم إعلان المنشور بين الجنود رفض أبسخيرون التعبد للأوثان، فقام الوالي بتوبيخه وحينما تجاهل وترك العمل بالجندية تم الأمر بسجنه، وتشير المراجع إلى أنه كان للقديس أبسخيرون أخان جاءا إليه يبكيان ويستعطفانه ليبخر للأوثان، إلا أنه لم يستجب لدموعهما صارا يتبرآن منه، أما هو فكان يحدثهما عن الإيمان بالسيد المسيح، ثم صار يصلي فظهر له ملاك يسنده ويشجعه.

تم تقديم أبسخيرون للمحاكمة، ووجدوه ثابتًا على إيمانه فقرر ترحيله إلى إحدى قرى المنيا بصعيد مصر، وتقول الرواية إنه تم تقييد أبسخيرون ورحل مع أربعة من الجنود على مركب متجه نحو الصعيد، فظهر له السيد المسيح وهو في السفينة وحل قيوده، حيث توسل إليه الجنود سمح لهم أن يقيدوه حتى لا يتعرضوا للموت.

ومن أشهر ما عرف عنه فى المراجع المسيحية أنه أخرج روحًا شريرة كانت تعذب أحد الولاة حينها، ما دفع الوالي للأمر بربطه في خيل والطواف به في شوارع المدينة، ويصيح البعض أمامه، قائلين: "هذا جزاء من لا يخضع لأوامر الملوك ويقدم البخور للآلهة".

كما اشتهر عن القديس أبسخيرون أنه قُدّم لعذابات كثيرة وكان الرب يسنده ويقويه ويشفي جروحه فى اليوم الثاني من أعمال التعذيب، حتى وصلت قصته إلى مرحلتها الأخيرة بقطع رأسه، وهو ما لم يمنع انتشار بعض التراث عنه خاصة "كنيسة القديس أبسخيرون" التي كانت بقلين (بمحافظة كفرالشيخ)، نقلها القديس إلى البهو بمحافظة المنيا بالصعيد، وما زالت قائمة إلى اليوم.

بحسب المراجع الكنسية، قيل إن أهل قلين اعتادوا أن يعينوا ليلة محددة لإقامة عدد من الزيجات معًا، ربما بسبب صعوبة المواصلات في ذلك الوقت، ولتوافقها بوقت جمع المحاصيل. وفي أحد هذه الاحتفالات إذ كان حوالي 100 شخص مجتمعين في الكنيسة، كان عدو الخير قد أثار المضطهدين عليهم، وكان المؤمنون في هذه المدينة يتشفعون دائمًا بالقديس أبسخيرون الذي من بلدتهم. وفي أثناء الليل قبل أن ينفذ المضطهدون ما في نيتهم نقلت الكنيسة بمن هم فيها إلى البهو بصعيد مصر. وفي الصباح خرج الناس من الكنيسة ليجدوا أنفسهم في بلد غير بلدهم. ظهر لهم القديس دون أن يعرفوه، وسار معهم حتى شاطئ النيل، وإذ ركبوا سفينة وصلوا إلى قلين في يوم واحد عوض ثلاثة أيام، فتعجب صاحب السفينة وآمن بالمسيحية، وفي قلين لم يجدوا الكنيسة، لا يزال مكانها بركة ماء تسمى بحيرة القليني.

(7)

قاعة الصلاة الرئيسية كأنها قطعة من الجنة ممتلئة بأضواء الشموع والمزامير الهادئة التي تملأ المكان بنغماتها الروحية فى الليل، أما في النهار فتتسلل الأشعة الشمسية لها من خلال النوافذ الملونة ورسمت لوحات جميلة من الضوء على الأرضية المغطاة بالبلاط الكبير.

مع غروب الشمس  يبدأ موعد صلاة قداس العشية فى الخامسة مساء، ويجتمع الرهبان لتناول الطعام، وتحول ضجيج الزوار إلى الهدوء الذي يعم أرجاء الدير، حتى موعد صلاة السحر ختام الثمانى صلوات التى يؤديها الراهب فى يومه، أما المواطن المسيحي فيقوم يوميًا بأداء سبع صلوات فقط، حسبما أفاد الرهبان.

وفي الثالث عشر من شهر يونيو من كل عام يحتفل دير "مارمرقس الرسول والشهيد أبسخيرون القلينى" بعيد الشهيد أبسخيرون القلينى، حيث يتوافد الآلاف من المسيحيين في الداخل والخارج إلى الدير لمشاركة في الاحتفال وتدق أجراس الدير، وطبول الكشافة، لتعلن عن وصول بدء الاحتفالية ووصول رئيس الدير، في موكب مهيب يتقدمه خورس الشمامسة وهم ينشدون لحن (إك إزماروؤت) وسط زغاريد الأقباط، كما تقام صلاة عشية عيد استشهاد القديس مارمرقس الرسول بالدير بمشاركة الآباء الكهنة.

وفي تفاصيل الحدث، يؤكد رهبان الدير لـ"الدستور" أن زفة وعشية وتطييب رفات مارمرقس الرسول هي مراسم دينية تقام للاحتفال برفات القديس مرقس الرسول وتكريمه لا سيما أن له عدة ألقاب، منها "تلميذ المسيح الطوباوي"، و"كاروز الديار المصرية"، وكتب "إنجيل مارمرقس" و"القداس الإلهي"، وأسس مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، كما أسس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.

وتعد هذه المراسم مناسبة مهمة في التقويم الديني القبطي، وتقام عادة في أبريل من كل عام، حيث تتألف من ثلاثة أجزاء رئيسية: الزفة، والعشية، وتطييب الرفات.

تبدأ الزفة بمسيرة دينية تقام في بهو الدير ومدخله، ويشارك فيها الآلاف من المؤمنين والكهنة والرهبان والراهبات، حيث يحملون الأعلام والصلوات والأيقونات المقدسة، كما يردد المشاركون الألحان الدينية والتراتيل التي تمجد القديس مرقس وتعبيرًا عن فرحتهم بالاحتفال به.

أما العشية، فتلي الزفة، وتتم فيها إقامة صلاة العشية داخل الكنيسة، ويشارك المؤمنون في الصلاة والتراتيل والتأمل في حياة القديس مرقس ومعاناته، وتتضمن العشية قراءات من الكتاب المقدس وصلاة القداس الإلهي، وتستمر لفترة زمنية محددة.

أما الجزء الأخير الخاص بتطييب الرفات، فيعد الأكثر تأثيرًا عاطفيًا في المراسم، حيث يعتقد المسيحيون أن رفات القديس مرقس تحتفظ بقوة روحية خاصة وتتمتع بقدرة على إحداث معجزات، ويتم عرض الرفات في مكان مقدس داخل الكنيسة فى الدير، ويحضرها المؤمنون ليلتمسوها بأيديهم ويركضوها على وجوههم وأجسادهم، في رمزية للتواصل المباشر مع القديس وطلب الشفاعة والبركة، وبعد انتهاء مرحلة تطييب الرفات، تستمر المراسم بالصلوات والتراتيل الإضافية والمواعظ والتعاليم الروحية التي تعزز الاحتفال وتعمق فهم المؤمنين لأهمية وتأثير القديس مرقس في الحياة المسيحية.