رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثقافة القاهرة وثقافات الأقاليم

يحسب إقليمي عابر بالقاهرة أن ثقافتها شىء خلاف ثقافات الأقاليم تماما.. ينبهر بها، ويثنى عليها، ويتمنى لو كان إقليمه كمثلها، لا بأس بالأمر طبعًا، لكنه لو تأملها تأملًا ثاقبًا، وتمهل في وصفها، لوجدها شبيهة إقليمه، ولو من وجه واحد، غير أنه مخطوف القلب والعينين، يطير وراء حسن الأشياء ولمعانها، ولعمري إن معظم الأشياء في القاهرة غزيرة الحسن واللمعان على مستوى أشكالها الخارجية.. ولكن لو أن مثله نفذ إلى أعماق تلك الأشياء فلعله كان اكتنه عوارًا ما، سببته أسباب شتى، قد تكون سطحيته نفسها منها، لكنه غالبًا ما يكتفي بالمظهر الذي يبدو سليمًا لا خلل فيه، وينسى أن الباطن قد يكون منغلقًا على تشوهات وجراح!
من الطبيعي أن تكون مدينة القاهرة حلمًا سرمديًا لأبناء الأقاليم، هذا شأن العواصم في كل الدنيا، العواصم التي هي المراكز الرئيسية للدول حتى لو تخلصت الدول من الأبعاد المركزية واعتمدت نظام اللامركزية في الإدارة، فإذا تذكرنا أننا لم نتخلص من مركزيتنا مع كوننا حاولنا ذلك بإخلاص؛ كانت القاهرة حلمًا أكبر بالبداهة، وكانت أكثر فتنة، وكانت أشد إغراءً وأعظم إغواءً، وظل الإنسان المصري، في شمال الوطن وجنوبه، يتصور مروره بها شيئًا ضروريًا، وإقامته فيها غاية الغايات، ولو قيل له، ألف مرة، إنها مزدحمة وصاخبة، وكم تقتل الآمال، فإنه يصدق وهمه ويكذب محدثيه، ويسعى إليها سعيًا محمومًا، راغبًا في الارتباط الوثيق بها والانسجام الكامل معها..
القاهرة، في أول الحكاية وآخرها، محافظة مصرية كبقية المحافظات، أهلتها السنون أن تكون عاصمة للبلاد، ولذا حصدت النصيب الأكبر من التشييد والتطوير والتحديث، ولكن جوهر الحياة فيها لا يختلف عن جوهرها في عموم الجغرافيا الوطنية، الناس هم الناس، والمعتقدات والأفكار والمواريث هي المعتقدات والأفكار والمواريث، بفروق مفهومة طبعا، فكما أنها مؤثرة بحكم عاصميتها فإنها متأثرة بحكم تعدد ألسنة المصريين في سوحها من كل الجهات.
لا أقدح في القاهرة بالتأكيد، حاشا وكلا، لكنني لا أمدح أحوالها أيضًا، بالذات كما يمدحها بسطاء العقول ممن يمرون عليها، وليس في ظنونهم أنها مثقلة ومبتلاة! لقد ظلت أمنية هؤلاء أن ينالوا القاهرة، المنال فقط، وأما أنا فقد استقررت فيها تاركا إقليمي الجنوبي البعيد، حققت منالها فعليا، لكنني لا زلت أحلم لها كما سبق وحلمت بها، أحلم لها بالنظافة والجمال، والنظام والترتيب، وقلة التكدس في الأماكن والمواقع، وعدم الغش والخداع، ووفرة البساطة والوقار، وأريد أن تكون فارقة في توجهاتها وتطلعاتها، وصادقة ورحيمة، وذات حكمة شموسها ساطعة، إلا أنها، بالنظر الثاقب إلى تراكم همومها، دون ذلك بكثير..
لتكن القاهرة أم الوطن، قولا وعملا، بالجدارة قبل التاريخ، وعلى الإقليميين الطامحين إليها ألا يزيفوها بأخيلتهم القاصرة؛ فكم أحصوها إحصاءً خاطئًا ولا يدركون!!