رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المركزية المصرية وكليوباترا

سامح الأسوانى
سامح الأسوانى

لم يكن يعرف عنها كثيرون سوى أنها ماركة لأشهر سجائر شعبية فى مصر، وصورة وجهها بملامحها الذهبية على علبة الدخان، والنسر بجناحيه المضمومين يتوج رأسها، لكنها صارت حديث غالبية المصريين حين قررت منصة «نتفليكس» عرض حلقات وثائقية عن حياتها، وتؤدى دورها الممثلة أديل جيمس، ذات الجذور الإفريقية، لتنطلق عاصفة من الرفض لتزييف التاريخ المصرى، ويُعاد الجدل حول «المركزية الإفريقية».

و«الأفروسنتريك» والزعم بأن الحضارة المصرية من صنع أهل إفريقيا من سكان جنوب الصحراء ليس أمرًا جديدًا، بل امتدادًا لمعركة طويلة تنطلق من صلف «المركزية الأوروبية»، التى نظرت إلى نفسها وللجنس الآرى، لعقود طويلة، على أنها الأسمى فكريًا وحضاريًا، بينما بقية شعوب الأرض لا يعرفون الحكمة والفلسفة والعلم والأدب والحضارة، ووصلت فى عنصريتها إلى ربط التقدم بلون البشرة، فالأسود أو الأصفر جاهل وغبى وأحمق، والأبيض يمتلك المعرفة المطلقة.

وفى الحالتين، المركزية الإفريقية والمركزية الأوروبية، نفى كامل للمصريين ودورهم فى بناء الحضارة العظيمة، التى لا تزال آثارها شاهدة على السبق والأصالة فى علوم الفلك والهندسة والرياضيات والكيمياء والأدب والفنون، وغيرها من مقومات التحضر.

المركزية الأوروبية تمحورت حول عقيدة «المجد الرومانى» وفق وصف محمد عادل زكى فى كتابه «نقد الاقتصاد السياسى»، ورسّخت فى استعمارها للشعوب سطوتها الفكرية، واستبعدتْ تاريخ الشعوب المستعمَرة وفصلتْ الحضارة اليونانية عن جذورها الشرقية، فصارت هى مبتدأ كل شىء راقٍ متحضر.

وحين حاول الغرب تغيير هذه الفكرة المركزية، مثلما جاء فى كتاب «أثينا السوداء» للمؤرخ مارتن برنال، تماهى مع المركزية الإفريقية، فسقط المصريون مرة أخرى خارج التاريخ، حتى إن الدكتور أحمد عتمان كتب عنوانًا يبدو صادمًا لمقدمة الكتاب الذى أشرف على ترجمته هو: «أثينة المصرية ليست زنجية ولا عنصرية».

وفى أولى حلقات العمل الوثائقى «الملكة كليوباترا» صور صناعه، أن ٣ عناصر كانوا موجودين بمصر فى عهد الملكة، هم «المصريون الأصليون» أى أبناء جنوب الصحراء، والبطالمة ثم «اليهود»، واختيار صُناع العمل لليهود وحدهم، دون بقية الشعوب الأخرى التى سكنت مصر له دلالته، يوضحها الدكتور أحمد عتمان، الذى كتب عن برنال: «فى الظاهر يدافع المؤلف عن المصرية فى مواجهة ما يسميه النموذج الآرى المتطرف، ولكنه فى الظاهر والباطن معًا يعلى من شأن السامية فى مواجهة الطرفين السابقين»، والساميون عند المؤلف هم اليهود فقط، ما يصل بنا إلى أكذوبة جديدة هى أن «الساميين» هم صُناع الحضارة الإنسانية، ومنها بالطبع الحضارة المصرية القديمة، ونحن سمعنا عن مهاترات كثيرة حول بناء اليهود للأهرامات، بل إن برنال يربط صراحة بين الماسونية و«الهوس بمصر»، فيقول: «إن الماسونية اعتبرت الديانة المصرية القديمة المثل والقدوة فنسجت على منوالها»، وكثير من الباحثين ربطوا بين الماسونية والصهيونية فى السعى نحو الهيمنة على العالم.

كما أن برنال يشير إلى ما يصفه بالتشابه فى البناء الهندسى بين «هيكل سليمان» و«الهرم الأكبر»، و«استخدام رموز فى البناءين تشير إلى بنية الكون»!

قد يغضب دعاة المركزية الأوروبية من أن الفيلم صور كليوباترا وأباها على أنهما من إفريقيا، لكن أحدًا لم يفكر فى غضب المصريين من سرقة تاريخهم وتزييفه، لصالح أهداف كولونيالية جديدة، تنفى الأصالة عن المصريين وحضارتهم المركزية، وتتجاهل أن كليوباترا ذاتها رمز للمستعمر نهب ثروة البلاد، وحطّ من شأنها.

على أن سيرة كليوباترا ونهايتها التراجيدية ألهمت المؤرخين والأدباء على السواء، فهاجمها البعض ووصفها بأنها «سيدة لعوب، تأسر الرجال بعبثها وجاذبيتها وعذوبة حديثها» على نحو ما فعل المؤرخ عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «تاريخ الحركة القومية فى مصر القديمة»، الذى قال عنها: «هى آخر ملوك البطالمة، وقد كانت سيدة مقدونية يونانية، ولم تكن فيها قطرة مصرية»، وهذا رأى غير قاطع عند مؤرخين آخرين، بالنظر إلى عدم معرفة جنسية أمها على وجه اليقين، بينما يرى المؤرخ إبراهيم نصحى فى كتابه «تاريخ مصر فى عصر البطالمة» أنه من الإنصاف عدم وصف الملكة بأنها لعوب كما صورها خصومها من الرومان، «فقد كانت أسمى وأجلّ من ذلك».

ومن الواضح أن كليوباترا كانت مثقفة عصرها، فقد كانت تجيد لغات المصرية القديمة والآرامية والعبرية والعربية والفارسية والإثيوبية، وهذا دليل يرد على وثائقى «نتفليكس» بأن مصر كانت تزخر بكثير من الجنسيات بالنظر إلى توسع البطالمة الاستعمارى فى الشرق، وإلا لما احتاجت الملكة إلى تعلم كل هذه اللغات.

هذه المعرفة كانت سببًا فى أن تأسر قلوب الفرسان، حتى إنها كانت تساعد يوليوس قيصر فى إدارة الحُكم وأوحت له بكثير من الأفكار فى هذا الشأن، لكن هذه المعرفة لم تكن سوى لعنة وشؤم على من أحبها، فاغتيل قيصر من بروتوس وجماعته، وانتحر ماركوس أنطونيوس بعد هزيمته من أوكتافيوس فى موقعة أكتيوم، ثم انتحارها أخيرًا حتى لا تصبح أسيرة للقائد الرومانى المُنتصر.