رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"مهندس البهجة".. كتاب يرصد حكايات الدولة الناصرية من خلال الفن

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

صدر للدكتور وليد الخشاب منذ أيام الطبعة الثانية من كتاب "مهندس البهجة.. فؤاد المهندس ولاوعي السينما" عن دار المرايا بالقاهرة. 

قد يشعر قارئ "مهندس البهجة" بالحنين إلى زمن الستينيات وفورة الشعور بالعزة الوطنية في أوج التحرر من الاستعمار، وظهور مصر كفاعل سياسي واقتصادي دولي على الساحتين العربية والإفريقية، لاسيما في أعقاب الانتصار السياسي الذي حققه نظام التحرر الوطني في حرب السويس عام 1956. 

فالكاتب يؤكد دور فؤاد المهندس كفاعل، بل وكرمز من رموز الإنتاج الثقافي في المرحلة الناصرية، أو على حد تعبيره، كممثل لنوع من الإنتاج الثقافي في مرحلة ما بعد التحرر العربي، بل ويقارن بين دور عبد الحليم حافظ كممثل لما سماه "العروبة الغنائية" وبين دور فؤاد المهندس كنموذج لما سماه "العروبة الكوميدية". 

ويعني بذلك إنتاج أغانٍ تحمل خطاب العروبة في حالة عبد الحليم، وفكاهة تمثل إنتاجاً باللغة العربية في دول عربية مستقلة، في حالة المهندس، لكن الكتاب لا يحمل مجرد اجترار الحنين إلى "زمن جميل"، بل هو قراءة نقدية وناقدة لآليات صناعة الكوميديا في تلك المرحلة، ولمساهمة الفكاهة في إنتاج خطابات السلطة وفي مقاومة تلك الخطابات معاً.

وليد الخشاب

هندسة الكوميديا من هندسة المجتمع

يشرح الكاتب أن استخدامه لعبارة "مهندس البهجة" إشارة للفنان فؤاد المهندس ليست مجرد تلاعب بالألفاظ بخصوص اسم عائلة النجم "المهندس" ودوره كواحد من صناع البهجة العظام، وإنما هو التفات لدور كوميديا المهندس في مشروع التحديث الناصري، أو -بعبارات اليوم- في هندسة المجتمع، أي في إعادة تشكيل مؤسسات المجتمع وقيمه. 

فكما تبنت الدولة الناصرية تركيز رأس المال تحت إدارتها، وكما أطلقت الخطط الخمسية كجزء من تخطيط الاقتصاد وعملية التنمية وإيكال إدارة هذه الملفات بطريقة مركزية إلى أجهزة الحكومة، فقد دعمت دولة التحرر الوطني المركزية كوميديا فؤاد المهندس لتساهم في تحديث قيم المجتمع، وفي الدعاية للحداثة وللرفاهية التي تحققها تلك الحداثة، والتي تعمل الدولة الوطنية الوليدة على ضمان استمرارها ورعايتها بعد ثورة يوليو 1952. 

فالكاتب يرى أن صورة كل من فؤاد المهندس وزوجته في الحياة وعلى خشبة المسرح وعلى شاشة السينما، الفنانة شويكار هي في حد ذاتها ترويج لنموذج الثنائي الزوجي الحديث المنفتح على العالم الذي يمثل قيم التقدم والحداثة التي أتت بها ثورة يوليو 1952. كأن المهندس وشويكار تجسيد للتحديث الاجتماعي والتحرر الشخصي الذي صاحب ثورة يوليو 1952، من حيث كونهما في الحياة وفي الأدوار التي مثلاها معاً كثنائي مسرحي وسينمائي شخصيتين مستقلتين، متحررتين، ترتبطان على أساس من الحرية والمساواة واحترام مساحة الآخر الفردية في العمل وفي المنزل.

وليد الخشاب

لكن الخشاب لا يكتفي بمداعبة ذكريات وخيالات قراء العربية حول مرحلة الناصرية أو مرحلة فوران العزة القومية ونجاحاتها في ستينيات القرن الماضي، بتحقيق الاستقلال وبناء الدولة الوطنية والقيام بمشروعات التحديث الكبرى. بل هو ناقد لما حملته تلك الحقبة من تضييق على الحريات، ويُفَصِل وصفَ ما يلمسه من تناقض - يشبهه أحيانا بالفصام، بين خطاب عن التحرر من الاستعمار الخارجي الغربي، وممارسات تقيد الحريات على المستوى الداخلي، بحجة توحيد الصف الوطني في مواجهة الأطماع والأخطار الخارجية. 

يرصد الخشاب تناول هذا التناقض في الأفلام الكوميدية التي قام فؤاد المهندس ببطولتها في الستينات ومطلع السبعينات، من خلال مفهوم اللاوعي السينمائي. فهو يرى في انتشار الكوميديات البوليسية وكوميديات الجاسوسية مثل فيلمي "أخطر رجل في العالم" و"عودة أخطر رجل في العالم" تحية للأجهزة الأمنية وتمجيداً لمعرفتها "دبة النملة" وخائنة الأعين وما تخفي الصدور، إذ تنتهي هذه الأفلام بقيام الأجهزة الأمنية بالقبض على المجرم، وبكشفها عن متابعتها القضية منذ اليوم الأول، وعلمها بكل تفاصيلها، وبتدخلها في اللحظة المناسبة لتعاقب المسيء، وترفع الظلم عن المتهم البريء الذي عادة ما يكون فؤاد المهندس نفسه. لكن يقترح الخشاب أن تلك الأفلام تفصح بشكل لاواعٍ عن أزمة يشعر بها المجتمع في قرارة نفسه: فالحضور الطاغي لأجهزة الأمن ليس فقط تحية لترسخها، وإنما شكوى لاواعية من سيطرتها على جوانب كثيرة في حياة الناس في المجتمع الناصري، ومن وقوع كل الناس تحت المراقبة والمتابعة.

غلاف الكتاب

هل للكوميديا عقيدة فكرية؟

في تحليل الدكتور وليد الخشاب، لا تقتصر سيطرة الدولة على المجتمع على إفراطها في دعم الأجهزة الأمنية، بل هي سيطرة تتحقق بالدعاية للحداثة، وبالتأكيد على أن الدولة الوطنية والنظام الحاكم هما الضامنان لاستمرارية التحديث ولنجاح مشروعاته اقتصاديا واجتماعيا. في هذا الإطار، يطرح الخشاب مصطلح:" أيديولوجية الفودفيل" ويقترح فهم تلك الأيديولوجية باعتبارها المنجز الفكري الذي تحققه الكوميديا وتروج له وباعتبارها تتجسد في أقوى صورها في أعمال فؤاد المهندس المسرحية والسينمائية، بل والإذاعية.

ربما يستغرب القارئ أنيصف الدكتور الخشاب عقيدة فكرية ينسبها لنظام ما بعد التحرر الوطني في مصر، أي النظام الناصري، ويسميها المؤلف أيديولوجية الفودفيل فهذا النوع الفني المسرحي والسينمائي له خصوصية دقيقة. ولد الفودفيل في فرنسا وتغير شكله عبر القرون، لكنه استقر في القرن التاسع عشر بوصفه النوع المسرحي التجاري الأكثر رواجا، يحكي حكايات مليئة بالمغامرات والخيانات العاطفية، والمواقف المحرجة المفاجئة التي يلخصها موقف شهير: عودة مفاجئة للزوج إلى المنزل بينما الزوجة مع عشيقها أو مع صديق يتصور الزوج أنه عشيقها. ويشرح الخشاب في كتابه أن فيلم "اعترافات زوج" نموذج واضح على كوميديا الفودفيل، فهو مبني على المفارقات الناجمة عن علاقة خيانة متوهمة تجمع مثلث الزوج/الزوجة/صديقة الزوجة.

المهندس وشويكار الزوجة والشريكة في الكوميديا

صورة تجمع المهندس بشويكار

يقترح الخشاب أن مثل هذه الكوميديات تحمل خطاباً ودعاية لعقيدة فكرية أنتجتها دولة التحرر الوطني الناصرية، ويسميها "أيديولوجية الفودفيل". ملخص خطاب تلك العقيدة هو أن الدولة تقدم صورة من المتع المرتبطة بالحداثة وبالدخول إلى عالم الطبقة الوسطى وتقنع المشاهدين أن الولاء للدولة وللنظام هو الضامن للانضمام إلى الطبقة الوسطى، بفضل التعليم العالي المجاني وبفضل ضمان الدولة لتوظيف جميع الخريجين في قطاعاتها. كما توحي تلك الأيديولوجية أن الانضمام إلى الطبقة الوسطى المتعلمة والبيروقراطية الحاكمة، بمعنى ما، يتيح للمواطن أن يحصل على متع لا يحصل عليها سوى من يدين للنظام بالولاء ومن يقبل ترديد خطابه التحديثي والتقدمي. 

تتمثل تلك المتع الموعودة في الحياة في فيلات الطبقة الوسطى العليا التي تدور فيها معظم مسرحيات وأفلام فؤاد المهندس في الستينات، وفي الاستمتاع بأجساد سيدات أرقى الطبقات، اللاتي هن موضوع الغراميات في تلك الأعمال الفنية، وتجسدهن الفنانة شويكار بامتياز.

المهندس وشويكار.

لكن سر استدعاء الفودفيل يكمن -في تحليل الخشاب- في اشتمال المتع الموعودة لمن يقايض ولاءه للنظام بالدخول إلى الطبقة الوسطى على متع تتمرد على الأطر الشرعية، مثل متع الغراميات خارج إطار الزواج، كما يروج لها نوع الفودفيل الفني في المسرح والسينما، كما نرى في فيلمي "أنا وهو وهي" و"غراميات زوج"، أو في تعدد العلاقات الغرامية في وقت واحد، كما في فيلم "هارب من الزواج" وهذه هي أول ثلاثة أفلام يقوم فؤاد المهندس ببطولتها في مطلع الستينات.

لكن للقارئ أن يأخذ على وليد الخشاب أنه يربط هذا المصطلح الذي نحته "أيديولوجية الفودفيل" بنوع الفودفيل وحده، لأن وصف تلك العقيدة الفكرية كما طرحه الخشاب، من مقايضة الوعد بالمتعة وبنعيم الطبقة الوسطى بالولاء للنظام، ينطبق على أعمال كوميدية عديدة قام فؤاد المهندس ببطولتها، وهي أعمال لا تدخل تحت بند الفودفيل على الإطلاق. 

على سبيل المثال، فبعض أشهر أعمال المهندس -لاسيما في السينما- تعتبر كوميديا حركة أو أكشن كوميدي، أو تعتبر كوميديا بوليسية مثل "سفاح النساء"، أو كوميديا جاسوسية مثل "العتبة جزاز" و"أخطر رجل في العالم" و "عودة أخطر رجل في العالم". ومع ذلك، فتلك الأفلام تحمل نفس ملامح الرسالة الاجتماعية التي تبثها مسرحيات وأفلام الفودفيل التي قام المهندس ببطولتها، من حيث تصوير نعيم الطبقة الوسطى، والإيحاء بأن التمتع بذلك النعيم لا يكون إلا عبر وساطة مؤسسات الدولة أو الحصول على وظائف في مختلف قطاعات الدولة. ربما كان الأوفق أن يستخدم المؤلف تعبيراً أكثر شمولية مثل "أيديولوجية الكوميديا".

 

فؤاد المهندس والآخرون

صورة للفنان الراحل اسماعيل يس مثالا لتوجهات الكوميديا بدولة يوليو.والناصرية.

ذكر المؤلف بعض نجوم الكوميديا من معاصري فؤاد المهندس لكن في اقتضاب شديد. اختار الدكتور الخشاب أن يخصص كتابه لتحليل أعمال فنان بعينه هو الفنان فؤاد المهندس، فلا مجال لانتقاده لأنه لم يجعل دراسته مقارنة بين أعمال المهندس وأعمال نجوم ضحك آخرين من مجايليه أو من الرواد الذين سبقوه، أو من النجوم الذين احتلوا الساحة بعد تراجع الأضواء عن "الأستاذ". لكن الخشاب قد عقد بعض المقارنات في كتابه بين فؤاد المهندس ونجيب الريحاني من ناحية، وبينه وبين عادل إمام من ناحية أخرى، بالإضافة إلى أنه أفاض في تحليل علاقة الفنان فؤاد المهندس بالفنانة شويكار. لهذا يصبح مشروعاً أن نتساءل عن سر اختيار المؤلف لتلك الأسماء وحدها لتكون موضع المقارنة مع المهندس، وأن نأمل في أنتتناول طبعة قادمة من الكتاب مقارنات بين المهندس وبعض النجوم البارزين في مجال الكوميديا العربية، من جيل سابق أو لاحق على المهندس، على نحو أكثر تفصيلاً مما بين أيدينا. يلفت النظر أن الفنان إسماعيل ياسين الذي كان ملك الكوميديا في الخمسينات، حين بدأ المهندس خطواته الأولى في عالم الفن، لا يحظى إلا ببضعة أسطر في كتاب "مهندس البهجة". مع أن كلا الفنانين تميز ببطولة أعمال تدعم بشكل أو بآخر توجهات النظام بعد يوليو 1952، مثلما فعل إسماعيل ياسين في سلسلة أفلامه عن الجيش والأسطول. 

المهندس وشويكار.

ربما كان الريحاني هو الكوميديان الذي حظي بنصيب الأسد من التحليلات الثقافية في كتاب "مهندس البهجة" ويحدث القارئ أن الكتاب يدرس علاقة النجم المهندس بالرائد الريحاني على مثال علاقة الخلف بالسلف. لكن يأسف القارئ أن الكتاب لم يستمر بالمنطق نفسه في دراسة علاقة المهندس بتلميذه عادل إمام، الذي كان الخلف لسلفه فؤاد المهندس على عرش الكوميديا السينمائية والمسرحية في مصر والعالم العربي.

على كل حال، مهما كانت الملاحظات على الكتاب، فإن الجهد المبذول في تحليلات الأفلام وسياقها التاريخي والاجتماعي، وجدة المقاربة الجادة لعالم الكوميديا، وتعاملها مع الفكاهة بوصفها فنا رصيناً، لا محض تهريج، كل هذه العوامل تجعل من "مهندس البهجة" كتابا جديراً بالقراءة والمناقشة من أكثر من زاوية ومن حقبة لاخرى وتحديدا في مسارات كوميديانات مصر.