رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مشاهدات حزينة.. التطوير والوعى العام «1-4»

التطوير وتحديث البنية التحتية شىء ضرورى وأساسى فى أى مدينة فى العالم، ولكن عند تنفيذ التطوير يجب مراعاة الخصائص المعمارية للمدينة، ولا يتم تغيير وجه المدينة وطمس معالمها. 

وما يتم من أعمال تطوير للعاصمة يحتاج لمراجعة، والإجابة عن سؤال مهم: كيف سيؤثر هذا التطوير على هوية المدينة الثقافية والتاريخية والبصرية؟.. هل هذا السؤال متأخر؟ ربما، لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، كما أن تكرار الأعمال التى لا تتم فيها مراعاة جماليات المعمار أو المحافظة على روح المدينة يجعل كل مؤيد للتطوير يتراجع قليلًا للخلف كى يرى الصورة كاملة، وهذا لتحقيق المصلحة القصوى لهذا البلد. إن المراجعة وإعادة النظر وتغيير المخططات هى أمر علمى وعقلانى، فكل تصور ومخطط نظرى عند تطبيقه على أرض الواقع قد تكون له آثار سلبية أكثر من الفائدة المرجوة منه، من هنا يجب إعادة النظر فيما يتم على أرض الواقع من خلال عدة معايير، من أهمها إعلاء القيم الجمالية والمحافظة على هوية الأماكن التى يمر بها قطار أو كوبرى أو نفق أو ممشى التطوير.. وهذا ما تقوم به الدول المتحضرة، ففى أول زيارة لى لباريس عام ٢٠٠٦، بهرتنى واجهات المبانى التى لا يزيد ارتفاعها على ستة أدوار، واللون والطراز الواحد لكل العمارات، رغم أن هذه المبانى تعود للقرن الثامن عشر أو ما قبله، وعرفت من مرافقىّ أن الحكومة تشترط على من يقوم بأعمال تطوير لهذه المساكن، كإدخال الكهرباء والغاز والمياه وكل الخدمات وحتى أعمال الهدم والتنكيس، بأن يقوموا بما يريدون عدا إزالة الواجهة الأمامية، فرخصة التطوير والتحديث هى لما داخل البناية فحسب، مع ترميم الواجهة كما هى بطرازها ولونها دون أى مساس بما هو مطل على الشارع للمحافظة على الهوية البصرية لكل شارع وحى. 

التطوير والتحديث وبناء عمارات وأبراج سكنية يتم فى ضواحى المدينة أو الأطراف، من هنا تظل للمدن العظيمة رونقها وسحرها وتحتفظ بصورتها البهية فى ذاكرة أهلها ومن يقصدونها، وتصبح هذه المحافظة على القيم المعمارية للمدينة مصدرًا كبيرًا للدخل القومى ومصدرًا للمباهاة والفخر الوطنى.

وقد هالنى ما تم من تغيير فى حى الزمالك، وبالتحديد فى شارع ٢٦ يوليو، وكانت الصدمة عند رؤية حجرة أو مبنى صغير تحت كوبرى ١٥ مايو!!، تتصل به مواسير المياه والصرف الصحى تتجمع عليها تسريبات مياه وبقع طحالب متنامية على جدار أسمنتى قبيح، هل هذا مسجد؟ مكان للصلاة؟ كيف يستقيم الإيمان مع هذا القبح والضيق، والزمالك لا تخلو من المساجد؟، فعلى بعد أمتار منه مسجد الزمالك بفخامته وطرازه المعمارى الذى وضعه المعمارى الإيطالى ماريو روسى، وتم إنشاؤه فى عام ١٩٤٠. هل هى استراحة للعمال؟ استراحة العمال تقام فى مكان خلفى، وليس فى مدخل الحى، هل هى عنبر مجانين؟ لم أستطع التحديد، مجرد الفكرة أيًا كانت فى هذا المكان أرعبتنى، أن تقع العين على مكان أسمنتى ضيق قبيح أسفل الكوبرى فى مدخل الحى الراقى وعلى بُعد خطوات من مجمع الفنون أو قصر عائشة فهمى، هو نوع من أنواع العبث.. تمنيت أن يكون ما رأيته مجرد خداع بصرى أو وهم.. لكنه كان حقيقة تتأكد وتنمو مع كل خطوة أخطوها على رصيف شارع ٢٦ يوليو.. وأنا أتلقى صفعات متوالية من التشوهات البصرية والسمعية بامتداد الشارع.. ما هذه الكافيهات والمطاعم الشعبية؟ متى ظهرت؟ مَن المسئول عن منح التراخيص لهذا الكم الكبير؟ لصالح مَن يتم تشويه روح الحى الهادئ بطرازه المعمارى الراقى وواجهته التاريخية لتتحول أدواره الأرضية إلى واجهات زجاجية لمقاهٍ يرتادها الشباب من المراهقين لمجرد الأكل والشرب، وإثارة الصخب والضجيج بعشوائية فى الألفاظ والحركات، وازدحام على الرصيف يُفقد الحى أهم مميزاته وهى الهدوء والقدرة على التمشية على رصيف شوارعه؟ 

قد يكون الدافع الاقتصادى والبحث عن موارد جديدة ومصادر للدخل للمحافظة على الخدمات الأساسية سببًا لهذه التراخيص، لكن يعبّر عن روح الاستسهال ويعلى من القيم الاستهلاكية، وهى قيم قبيحة فجّة طاغية يمكنها أن تبتلع أى وكل شىء إذا سمحنا بانتشارها وأعطيناها شرعية.. إن وجود محطة مترو فى قلب الزمالك لا يجعلها مستباحة، فمحطات المترو موجودة فى أرقى الأحياء فى العالم، ولكن وجود هذه الكافيهات والمطاعم هو ما سيجذب كل المستهلكين من عشاق أكل الشارع والصخب، ويشوه وجه الحى الراقى، فتجب محاسبة المسئولين فى محافظة القاهرة وفى حى الزمالك على منح هذه التراخيص، كما يجب إعطاء من يعمل فى المحليات دورات تدريبية فى التاريخ والتذوق الجمالى حتى لا يخضعوا لابتزاز التدين الظاهرى أو الشبق الاستهلاكى.

وللحديث بقية...