رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف عرف المصريون البوذية قبل الميلاد؟

أقدم وأول ذكر للبوذية فى الوثائق المصرية، ورد فى كتابات تيتوس فلافيوس إكليمندس، المعروف باسم إكليمندس الإسكندرى، أحد أبرز معلمى مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، المولود سنة ١٥٠ ميلادية والمتوفى سنة ٢١٥، الذى أشار إلى وجود عدد من البوذيين فى المدينة خلال تلك الفترة. ومن هنا، تأتى أهمية اكتشاف تمثال لـ«بوذا»، يعود للعصر الرومانى، خلال أعمال الحفائر، التى تقوم بها بعثة المركز البولندى لآثار حوض البحر الأبيض المتوسط، PCMA، وجامعة ديلاوير الأمريكية، فى مدينة برنيكى، على ساحل البحر الأحمر، التى كانت إحدى نقاط الترانزيت الأساسية فى التجارة بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندى.

البيان الصادر عن وزارة السياحة والآثار، مساء أمس الأول الأربعاء، قال إن البعثة الأثرية البولندية الأمريكية المشتركة، التى تعمل تحت إشراف المجلس الأعلى للآثار، نجحت فى الكشف عن التمثال، بمعبد المدينة الأثرية، إضافة إلى عملتين معدنيتين من القرن الثانى الميلادى من مملكة «ساتافاهانا» الهندية الوسطى، ونقوش باللغة الهندية، السنسكريتية، يعود تاريخها إلى عصر الإمبراطور الرومانى ماركوس يوليوس فيلبس، الذى حكم بين ٢٤٤ و٢٤٩ ميلادية، والمعروف باسم «فيليب العربى»؛ لأنه ولد فى الولاية العربية الرومانية، أو المقاطعة البترائية، التى أسسها الرومان بعد احتلال مدينة البتراء، التى كانت محاطة بمقاطعة سوريا من الشمال، ومقاطعة مصر من الغرب، وباقى الصحراء العربية من الشرق والجنوب.

التمثال المصنوع من الحجر، يبلغ ارتفاعه ٧١ سم، ويصوّر بوذا واقفًا وهو يحمل جزءًا من ملابسه فى يده اليسرى، وحول رأسه هالة من أشعة الشمس، تشير إلى عقله المشع، أو المستنير، وبجانبه زهرة اللوتس، التى يقال إنها كانت تنبت فى كل الأماكن التى وطأتها قدماه. ورجح الدكتور ماريوس جويازدا، رئيس البعثة من الجانب البولندى، أن يكون قد تم نحت هذا التمثال، محليًا، فى برنيكى وتخصيصه للمعبد من قبل واحد أو أكثر من تجار الهند الأثرياء. كما أشار الدكتور مصطفى وزيرى، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، إلى أن البعثة البولندية الأمريكية تعمل فى هذا الموقع منذ سنة ١٩٩٤، وأن موسم حفائرها الحالى، شهد العديد من الدلائل المهمة على وجود صلات تجارية بين مصر والهند خلال العصر الرومانى.

بالفعل، كانت مصر فى موقع مركزى على الطريق التجارى الذى يربط الإمبراطورية الرومانية بالعديد من مناطق العالم القديم، بما فيها الهند. وكان لديها العديد من الموانئ على ساحل البحر الأحمر تشارك فى هذه التجارة، وأهمها ميناء برنيكى، الذى كانت السفن تصل إليه من الهند محملة بمنتجات مثل الفلفل والأحجار الكريمة وشبه الكريمة والمنسوجات والعاج، التى يتم تفريغها، ونقلها على الجمال عبر الصحراء إلى النيل، حيث تنقلها سفن أخرى إلى الإسكندرية ومن هناك إلى باقى مدن الإمبراطورية الرومانية.

هذه السفن حملت البوذية، أيضًا، من الهند إلى دول أخرى. وفى كتابه «البوذية.. مقدمة قصيرة جدًا»، الصادر سنة ٢٠١٣، أشار داميان كيون، أستاذ فخرى أخلاقيات البوذية فى كلية جولد سميث بجامعة لندن، إلى أن طرق التجارة القديمة، البرية والبحرية، كانت من أهم وسائل انتشار البوذية، موضحًا أن الرهبان البوذيين كانوا، فى أغلب الأحيان، يرافقون القوافل فى رحلاتها البرية. كما أشار إلى أن المدن التى تقام فيها أسواق كبيرة، والمنتشرة على طول هذه الطرق، خاصة فى بدايته ونهايته، كانت تستضيف جماعات حيوية مكونة من أعراق وجنسيات عديدة؛ ما ضمن انتقال الأفكار سريعًا.

هكذا، صار كثير من التجار الأثرياء رعاة للبوذية؛ فشيَّدوا الأضرحة، وبنوا الأديرة، واستأجروا فنانين لصناعة تماثيل لبوذا، حجرية أو خشبية، وقاموا بتزيين الكهوف والمزارات المقدسة بالصور البوذية، إما بدافع الإيمان والتقوى أو أملًا فى الفوز بميزة كارمية نتيجةً لأفعالهم الخيِّرة. و«الكارما» من أهم عناصر العقيدة البوذية، ويمكن تلخيصها بأن كل ما يفعله الكائن الحى، الإنسان أو الحيوان، لا بد أن تترتب عليه عواقب، تتوالد وتنمو إلى أن تنضج؛ لتسقط على صاحبها، فيكون جزاؤه إما ثوابًا وإما عقابًا. كما كان من العادات، أيضًا، مرافقة الرهبان البعثات الدبلوماسية، ومع ازدياد الدول المعتنقة للبوذية أرسلت تلك الدول، بدورها، سفراء إلى الدول المجاورة لها. وبهذه الطريقة، جرى تقديم البوذية إلى المستويات العليا. وفى أغلب الأحيان، كان يتم إرسال التماثيل والنصوص وغيرها باعتبارها هدايا؛ لإثارة فضول من يتلقون تلك الهدايا. 

مع هذا الانتشار، تكوَّن تدريجيًا، على امتداد السنوات أو القرون، العديد من الطوائف والمذاهب البوذية، وظهرت الفوارق بين البوذية المحافظة الموجودة فى جنوب آسيا فى بلدان مثل سريلانكا وبورما وتايلاند، وبين مذاهب الشمال المجددة فى العقيدة الموجودة فى التبت وآسيا الوسطى والصين واليابان. وشاع فى جنوب آسيا مذهب التيرافادا، ويعنى هذا الاسم «التعاليم الملزمة» أو «التعاليم الأصلية»، على الرغم من أن الترجمة الشائعة له هى «عقيدة الأقدمين». ويُعد هذا المذهب حاضنة للتعاليم القديمة الأصلية التى تعود إلى بوذا نفسه. أما مذاهب شمال آسيا فتنتمى إلى حركة تُعرف باسم ماهايانا، وتعنى «العربة الكبرى».

البوذية، بطبيعتها أو منذ بداياتها، ديانةً تبشيرية؛ فقد تجول بوذا فى مناطق عديدة ناشرًا تعاليمه، ودعا أتباعه، بوضوح، إلى أن يحذوا حذْوَه، وقال لهم: «اذهبوا أيها الرهبان وتجولوا من أجل خير ورفاهية البشر». غير أن هذه الدعوة لم تتحقق على نطاق واسع إلا بعد أن أصبح أشوكا العظيم، Ashoka the Great، إمبراطورًا للهند، سنة ٢٧٣ قبل الميلاد، والذى يُقال إنه شعر بالندم واعتنق البوذية، بعد حملة دموية على الساحل الشرقى فى منطقة كالينجا، المعروفة حاليًا باسم أوريسا، سنة ٢٦١ قبل الميلاد، وكرّس باقى فترة حُكمه الطويلة، التى امتدت حتى سنة ٢٣٢ قبل الميلاد، لترسيخ البوذية فى الهند، واستطاع أن يوحد كل شبه القارة الهندية تحت حكمه، باستثناء أسّام فى أقصى الشمال، والدكن، موطن التاميل، فى أقصى الجنوب. وكان من أكثر رجال الدولة نجاحًا فى الربط بين الأخلاق والسياسة، أو بين مثالية تعاليم بوذا والانتهازية السياسة لدى كوتيليا، الذى يماثل فى الثقافة الهندية مكيافيلى فى الثقافة الأوروبية.

لحماية طرق المواصلات ورعاية المسافرين، قام «أشوكا» بغرس الأشجار على امتداد طرق القوافل، وبنى الاستراحات والمحطات، وأمر بنقش تعاليم بوذا عليها، وأيضًا على مسلاّت حجرية تم نشرها فى مناطق عديدة، أو على جرف الصخور، وشيّد ثمانية وأربعين ألفًا من الأديرة، وأرسل مبشرين بالعقيدة البوذية إلى ممالك الشرق الأدنى والتبت والصين ومنغوليا واليابان وجزيرة سيلان، واليونانوسوريا و... و... و... وخلال حكم أشوكا، وأسرة موريا إجمالًا، نمت العلاقات التجارية والحضارية والثقافية مع مصر، وغيرها من دول المشرق، وصارت البوذية فى الإسكندرية، وغيرها، منذ ذلك العصر، ما يعنى أن هذه الدول عرفت البوذية قبل الميلاد بأكثر من مائتى سنة.

.. وتبقى الإشارة إلى الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وهو أستاذ العقيدة وفلسفة الأديان، كان قد وصف «بوذا»، خلال مؤتمر عن السلام عقده مجلس حكماء المسلمين، فى ٣ يناير ٢٠١٧، بـالحكيم الصامت، وقال إنه «من أكبر الشخصيّات فى تاريخ الإنسانية»، وكان وديعًا مسالمًا غير متكبر، وكانت وصاياه تدور حول المحبة والإحسان إلى الآخرين، لافتًا إلى أن كبار مؤرخى الأديان فى العالم يصفون رسالته بأنها دين الرحمة غير المتناهية. وربما تكون الإشارة مهمة، أيضًا، إلى أن نصف مليار حول العالم، فى الهند والصين وبنجلاديش وكوريا و... و... وغيرها، سيقومون، خلال أيام قليلة، بإضاءة مصابيح على شكل زهرة اللوتس، احتفالًا بيوم «فيساك»، أو «بوذا بورنيما»، أو يوم اكتمال القمر من شهر مايو، الذى هو يوم ميلاد سيدهارتا جوتاما، بوذا، أو «المتنور»، واليوم الذى بلغ فيه حالة «التنور»، ويوم وفاته.