رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحرب «الثورية» الأمريكية

المحاولات البريطانية لنزع سلاح «ميليشيات ماساشوستس»، أدت إلى اندلاع «الحرب الثورية الأمريكية» فى مثل هذا اليوم، ١٩ أبريل، سنة ١٧٧٥ التى تجرعت فيها بريطانيا هزيمة قاسية، واضطرت بعد ١١ شهرًا، تحديدًا فى ١٧ مارس ١٧٧٦، إلى إجلاء قواتها من بوسطن. وبين هذين اليومين، كان الملك البريطانى جورج الثالث قد أصدر «إعلان العصيان» فى ٢٣ أغسطس ١٧٧٥، الذى لم يحقق أى نتيجة غير تعزيز صمود المستعمرات الأمريكية فى سعيها نحو الاستقلال.

وقتها، قام «الكونجرس» بتعيين جورج واشنطن قائدًا عامًا لـ«الجيش القارى»، ليقود ذلك «التمرد» بوصف البريطانيين، أو «التحرر» بوصف الأمريكيين والفرنسيين، الذى انتهى بإعلان انفصال ثلاث عشرة مستعمرة، عن بريطانيا فى ٤ يوليو ١٧٧٦، صارت نواة للولايات المتحدة، وصار هذا اليوم معروفًا باسم «يوم الاستقلال». والطريف، أن «واشنطن» حين قرأ هذا الإعلان على جنوده فى نيويورك، بعد خمسة أيام، قاموا بتحطيم تمثال الملك البريطانى، الذى كان مصنوعًا من الرصاص، وأذابوه ليصنعوا منه طلقات لمدافعهم.

بلا حكومة أو جيش أو نظام مالى أو بنوك أو حتى إدارات أو خبرات عسكرية أو إدارية، خاض الأمريكيون هذه الحرب، المعروفة أيضًا باسم «حرب الاستقلال» التى كادوا يخسرونها لولا مساعدة الفرنسيين. أما «الكونجرس»، المشار إليه، فهو «الكونجرس القارى» الذى كان عبارة عن اجتماع عقده مندوبو اثنتى عشرة مستعمرة، فى ١٠ مايو ١٧٧٥، للتنسيق فيما بينهم بشأن أعمال المقاومة وعقد المعاهدات والاتفاقيات.

بحكم الأمر الواقع، صار هذا الاجتماع، أو الكونجرس القارى، أشبه بحكومة وطنية، وحين واجه صعوبات كبيرة فى تمويل أعمال المقاومة، أو الجهود الحربية، قام بطباعة كمية هائلة من الأوراق المالية، ما تسبب فى نتيجة كارثية، إذ ارتفع معدل التضخم وأصبحت تلك الأوراق بلا قيمة. ومن وقتها ظهرت المقولة الشائعة، أو المثل الذى يستخدمه الأمريكيون، إلى الآن، للتعبير عن أى شىء بلا قيمة: «لا يساوى عملة قارية»!

المستعمرات الثلاث عشرة التى خاضت الحرب ضد بريطانيا، تلقت، كما أشرنا، مساعدات فرنسا، التى تحوّل دعمها السرى بالعدة والعتاد، تدريجيًا، إلى دعم عسكرى مُعلن، وتكبدت ديونًا هائلة، إلى أن انتهت الحرب رسميًا فى ١٣ سبتمبر ١٧٨٣ بتوقيع «معاهدة باريس» التى اعترف فيها البريطانيون باستقلال المستعمرات.

الغريب، الذى صار عاديًا بعد ذلك، هو أن الفرنسيين لم يتمكّنوا من تحقيق أى مكاسب من هذه الحرب، لأن الأمريكيين أداروا لهم ظهورهم، خلال تفاوضهم مع بريطانيا. كما كان من الغرائب والعجائب والمساخر، أيضًا، أن البريطانيين لم يستشيروا قبائل الهنود الأمريكيين، أو سكان البلاد الأصليين، المتحالفين معهم، طوال فترة المفاوضات، بل وضعوهم أمام الأمر الواقع، ما تسبب لاحقًا فى صراعات مسلحة بينهم وبين «الجيش القارى»، الذى صار قائده، جورج واشنطن، فى ٣٠ أبريل ١٧٨٩، أول رؤساء الدولة الناشئة.

المهم، هو أن آخر جندى بريطانى غادر مدينة نيويورك، فى ٢٥ نوفمبر ١٧٨٣، معلنًا نهاية حكم «بريطانيا العظمى» للمستعمرات الأمريكية. ثم مرت الأيام، ودارت الأيام، وقامت حربان عالميتان، وضعت بعدهما غالبية الدول الأوروبية «الكتلة الغربية»، بما فيها الدولة التى كانت عظمى، أمنها وسلامتها تحت حماية حلف شمال الأطلسى، الذى قادته وسيطرت عليه، ولا تزال، المستعمرات السابقة أو الولايات المتحدة!

.. وأخيرًا، لعلك تتذكر أننا كنا قد تناولنا، منذ أيام، محاولات، أو أحلام، إخراج أوروبا من القبضة الأمريكية، أو من مظلة حمايتها، التى بدأها الرئيس شارل ديجول، مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، الحالية، وأول رؤسائها، الذى كان يحلم بتكوين تحالف عسكرى أوروبى، تقوده فرنسا، ليكون قوة عظمى ثالثة، تنافس الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، وصولًا إلى استعادة الرئيس الفرنسى الحالى إيمانويل ماكرون هذه الأحلام، أو المحاولات، منذ خمس سنوات، ومجددًا خلال زيارته العاصمة الصينية بكين، التى طالب خلالها الدول الأوروبية بأن تخوض معركة «الاستقلال الاستراتيجى»، محذرًا من أن «تسارع الاحتكار الثنائى»، الصينى الأمريكى، أو تصاعد التوترات بين القوتين العظميين، سيؤخر تحقيق الاستقلال الأوروبى.