رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأساطير.. تسالى فى نهار رمضان «5-3»

المثقف بين حكمة بروميثيوس وطيش سيزيف

 

كلاهما محكوم عليه بعقاب أبدى.. بروميثيوس مقيد بسلاسل قوية- صنعها هيفاستوس إله الحدادة- على صخرة فى جبال القوقاز. وكل صباح يأتيه نسر عملاق ينهش كبده، وفى المساء يعود الكبد لينمو من جديد ليستمر عقاب بروميثيوس الأبدى.

وسيزيف: مفروض عليه أن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادى، فيعود إلى رفعها إلى القمة، ويظل هكذا إلى الأبد، ليصبح رمزًا للعذاب الأبدى.

كلاهما تحدى سلطة آلهة الأوليمب، وكسر هيبة السلطة وتجرأ على عصيان أوامرها، وفى بعض الأحيان خداعها والسخرية منها وتعرية صلفها وغرورها.

لكن هناك فارقًا كبيرًا فى تفاصيل ما فعل كل منهما والهدف منه، مما يجعلنا نعيد النظر والتفكير فى تصورنا عن كل منهما، وفى تحديد انحيازاتنا لأى منهما، رغم أن كليهما فشل فى اختبار تحدى سلطة الآلهة وأخفق فى هزيمتها.

بروميثيوس كان أحد الآلهة، أشفق على البشر وعارض رغبة زيوس فى أن يظل البشر محرومين من القوة ومقيدين بالضعف والخوف، محرومين من المعرفة والمهارات والمواهب حتى لا يمتلكوا القوة التى تمكنهم من تحديه فى أحد الأيام.

لكن بروميثيوس منح البشر العديد من العطايا والهبات التى سرقها من آلهة الأوليمب هيفاستوس وأثينا وغيرهما، فعلّمهم فنون العمارة والبناء والنجارة، استخراج المعادن، علم الفلك، تحديد الفصول، الأرقام والحروف الهجائية، كما علّمهم كيفية استئناس الحيوانات وركوبها والإبحار بالسفن، كما أعطاهم موهبة التداوى والشفاء.

أثار هذا غضب زيوس من بروميثيوس ولكنه لم يعاقبه واكتفى بتحذيره. 

لم يكتفِ بروميثيوس بذلك، فقد أحزنه رؤية البشر فى برد الشتاء محرومين من الدفء والأمن، فقرر أن يحضر لهم النيران التى تدفئهم وتؤنسهم بنورها، فذهب إلى جبل الأوليمب سرًا حتى لا يفتضح أمره، واستطاع أن يسرق إحدى صواعق زيوس وأخفاها داخل عصا مجوفة صنعها من النباتات ثم أعطى قبسًا منها للبشر.

ومع ظهور النار بدأ سيل من الاختراعات والتقدم البشرى، وفى وقت قصير كان الفن والحضارة والثقافة تغزو الأرض المحيطة بالأوليمب، ولم يعد البشر الفانون مجرد حيوانات همجية، بل هم عاقلون ولهم القدرة على الإبداع والابتكار. غضب زيوس لذلك غضبًا شديدًا اهتز له جبل الأوليمب، وفرض على بروميثيوس عقابه الأبدى. 

أما سيزيف فهو ابن الملك أيولوس ملك ثيساليا، اشتغل سيزيف بالتجارة والإبحار، لكنه كان مخادعًا وجشعًا، وخرق قوانين وأعراف الضيافة بأن قتل المسافرين والضيوف النزلاء. وقد صوّره هوميروس بأنه أمكر وأخبث البشر على وجه الأرض قاطبة وأكثرهم لؤمًا. فقد أغرى ابنة أخيه، واغتصب عرش أخيه، وأفشى أسرار زيوس، فأمر زيوس بأن يُسلسل سيزيف فى الجحيم. لكن سيزيف طلب بمكر من إله الموت أن يجرب الأصفاد والسلاسل ليختبر مدى كفاءتها، وعندما فعل ذلك أحكم عليه سيزيف الأصفاد، ولما تقيّد إله الموت لم يعد أحد من البشر يموت، فتدخل إله الحرب لأن المعارك فقدت متعتها مع عدم موت أى من المتحاربين، وعاد سيزيف إلى الجحيم. لكنه بمكره أقنع زوجته قبل موته بأن تمتنع عن تقديم أضحيتها المعتادة، وأن تترك جثته ملقاة فى الشارع، وقد نفذت الزوجة المحبة الوصية، فاتخذها سيزيف حجة، وفى العالم السفلى، شكا من أن زوجته تهجره وتهمله وتتجاهله، وأقنع برسيفونى، ملكة العالم السفلى، بالسماح له بالصعود للعالم العلوى يطلب من زوجته أن تؤدى واجبها وتقدم أضحيتها ثم يعود للعالم السفلى، لكنه بعد أن عاد للأرض رفض أن يعود إلى العالم السفلى. 

كعقاب من الآلهة على خداعه، أُرغم سيزيف على دحرجة صخرة ضخمة على تل منحدر، ولكن قبل أن يبلغ قمة التل تفلت الصخرة دائمًا منه ويكون عليه أن يبدأ من جديد مرة أخرى. 

سيزيف اخترق القوانين وتجاوز حدوده لأنه اعتبر نفسه ندًا للآلهة حتى يبلغ عن حماقاتهم وطيشهم ونزقهم، وهو لم يقصد مصلحة عامة أو رفع ظلم أو مساعدة مظلوم أو نشر فكرة أو منفعة للناس، لكن كل تصرفاته وأفعاله ذات أهداف ذاتية تخصه، مجرد رغبة فى تحدٍ أنانى أهوج للسلطة والقوانين لم ينتج عنها أى خير أو منفعة، مجرد أفعال حمقاء دون التفكير فى توابعها، لذا كان عقابه الأبدى تأكيدًا لمعنى العبث والأفعال القالحة العقيمة التى لا ثمرة لها غير الدوران فى نفس النقطة، وعدم إنجاز شىء.

يتلقى بروميثيوس عقابه متماسكًا سعيدًا لأن البشر يعيشون حياة أحسن، ويعرف أن لعقابه ثمنًا وهو رفاه البشر، وسيأتى أحد الأبطال من أبناء الآلهة ويخلصه من عذابه.

بينما يدرك بروميثيوس وهو ينزل من القمة إلى القاع أنه لا أمل، فتتثاقل خطواته الهابطة ويطول الطريق ويستمر فى المحاولات غير المجدية.

لكن ماذا لو أن يدًا، كتفًا أخرى سندت الصخرة، ويدًا ثالثة ورابعة و... أحكمت وثاق الصخرة واستقرت على قمة الجبل، ألن تزول اللعنة؟ ويصبح هناك معنى لشقاء سيزيف؟