رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أصوات لا تنسى فى رمضان.. صوت «السماء ومكة» الشيخ القارئ عبدالباسط عبدالصمد

عبدالباسط عبدالصمد
عبدالباسط عبدالصمد

بصوت خشعت له النفوس وقراءة تهز الوجدان وتبكي له القلوب تميز القارئ الشيخ عبدالباسط محمد عبدالصّمد سليم داود، إذ أتقن قراءة القرآن بنغمات جديدة جعلت الجمهور يتفاعل معه، عن طريق وقفات وابتداءات غير معهودة في الآيات، بجانب تنوع القراءة وجمالية الصوت، وإتقان تلاوة القرآن.

شاءت الأقدار أن يبرز من مصر مشاهير القراء الذين ملئوا الدنيا تلاوة خاشعة، أثّرت طريقة أداء هؤلاء في قرّاء الدنيا شرقًا وغربًا، فقلدوهم في التلاوة وطريقة الأداء، وتطريب الصوت، مع الاحتفاظ بأصول القراءة، وقد شاع بين أهل العلم العبارة السائرة: "القرآن الكريم نزل بمكة وقُرِئ في مصر، وكُتب في إسطنبول"، وبلغ من صدق هذه العبارة أنها صارت كالحقائق يصدقها التاريخ، ويؤكدها الواقع، ومن بين الذين لمعوا بقوة في دنيا القراءة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، حيث تبوأ مكانة رفيعة بين أصحاب الأصوات العذبة والنغمات الخلابة، وطار اسمه شرقًا وغربًا، واحتفى الناس به في أي مكان نزل فيه.
ولد عبدالباسط عبدالصمد في 1 يناير 1927 الموافق 26 جمادى الآخرة عام 1345هـ، ونشأ في بيت حافظ للقرآن الكريم في قرية «المراعزة» بمدينة أرمنت في قنا.

كان جده الشّيخ عبدالصّمد من علماء المنطقة ومن الحفظة المشهود لهم بالتّمكن من حفظ القرآن وتجويده، ووالده هو الشّيخ محمد عبدالصّمد، وكان موظفًا في وزارة المواصلات، ومن كبار المجوّدين للقرآن، وأشقائه محمود وعبدالحميد، من حفظة كتاب الله، وله 3 أبناء هم هشام، ياسر، طارق.

في خمس سنوات أتم حفظ القرآن الكريم، إذ التحق بكتاب القرية في سن السادسة، وحفظ القرآن كاملًا عند بلوغه العاشرة، حيث كان شيخه العالم الأزهري الشيخ محمد سليم حمادة يصطحبه معه للقراءة في السهرات والحفلات، ويزكيه لتلاوة القرآن الكريم حتى ذاع صيته في الوجه القبلي.

في مذكرات الشيخ الراحل يؤكد أنه طُلب من جده ووالده أثناء تلك الفترة العمرية، أن يتعلم القراءات للقرآن الكريم، وطلبوا منه أن يذهب إلى طنطا لتلقي علوم القرآن الكريم على يد الشيخ محمد سليم، وبينما كان يستعد للسفر قبل التوجه لطنطا بيوم إذا بالشيخ سليم يصل إلى أرمنت ليستقر بها مُدرسًا للقراءات بالمعهد الديني، قائلًا: "كأن القدر قد سَاقَ إلينا هذا الرجل في الوقت المناسب"، فتعلم قراءات القرآن على يده.

كانت موالد الأولياء الكبار في الصعيد ميدانًا للقراء، يتلون كتاب الله للزوار، وكان للصعيد قراؤه من أمثال الشيخ صدّيق المنشاوي الملقب بـ"قارئ الصعيد" وهو والد القارئين الشيخين محمود ومحمد صديق المنشاوي، والشيخ عبدالراضي، وعوضي القوصي، وقد استفاد الشيخ عبدالباسط من طرائقهم في التلاوة، كما تأثر بمشاهير القراء في القاهرة، مثل الشيخ محمد رفعت ومصطفى إسماعيل، وعلي حزين، وكان يقطع عشرات الكيلومترات؛ ليستمع إليهم من مذياع في مقهى، وكانت أجهزة الراديو في ذلك الوقت قليلة لا يملكها كثيرون. 

تغيّر مجرى حياة الشيخ أثناء زيارته لمسجد السيدة زينب عام 1951، خلال الاحتفالات بميلاد السيدة الفاضلة، فكان ذاهبًا للمولد للاستماع إلى كبار المشايخ، حيث قام بالتلاوة في آخر ليالي المولد بعدما تعب القراء الكبار من التلاوة، وقدمه إمام المسجد الشيخ "علي سبيع" للقراءة، وكان يعرفه من قبل، وتردد الشيخ وكاد يعتذر عن عدم القراءة لولا أن شجعه إمام المسجد فأقبل يتلو من قوله تعالى في سورة الأحزاب: "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما"، فجذب الأسماع، وأرهفت واجتمعت عليه القلوب وخشعت، وسيطر صوته الندي على أنفاس الحاضرين، فأقبلوا عليه وهم لا يصدقون أن هذا صوت رجل مغمور، ساقته الأقدار إليهم فيملؤهم إعجابًا وتقديرًا، وكان ذلك كافيًا لإثارة انتباه الجموع الغفيرة التي لم تكف عن الهتاف وما فتئت تطلب من الفتى أن يتم تلاوته إلى أن استوفى أكثر من ساعة ونصف من القراءة، وبعد الانتهاء، فوجئ الجميع بالزحام الذي شهده مسجد السيدة زينب آنذاك، ليخرج صاحب الحنجرة الذهبية من المسجد في الصباح ومعه أكثر من عقد لإحياء الليالي القرآنية إذ قرر حينها أن يترك الصعيد ويستقر في القاهرة.

وخلال سنة تقدم الشيخ الموهوب إلى الإذاعة عام 1951م لإجازته، وتشكلت لجنة من كبار العلماء، وضمّت الشيخ الضياع شيخ عموم المقارئ المصرية، والشيخ محمود شلتوت قبل أن يولي مشيخة الجامع الأزهر، والشيخ محمد البنا، وقد أجازته اللجنة واعتمدته قارئًا، وذاع صيته مع أول قراءة له في الإذاعة، وأصبح من القرّاء الممتازين، وصار له وقت محدد مساء كل يوم سبت، تذاع قراءته على محبّيه ومستمعيه. 

تسلّم الشيخ وظيفته عام 1951 كقارئ للقرآن الكريم بمسجد الإمام الشافعي، وعرفت الجماهير صوته عن طريق إذاعة القرآن الكريم وكانت أولى قراءاته سورة فاطر، أعقبها بعد ذلك رحلات لشتى بلاد العالم وتحديدًا في رمضان لإحياء لياليه في المساجد العريقة.

خصّصت له الإذاعة موعدًا أسبوعيا ثابتا تبثّ فيه تلاوته، وعُيّن قارئا لمسجد الإمام الشافعيّ عام 1952، ثم قارئا لمسجد الإمام الحسين عام 1958 خلفا للشّيخ محمود علي البنا.

عقب التحاقه بإذاعة القرآن الكريم وذاع صيته، زادت القدرة الشرائية لأجهزة الراديو من كافة المواطنين للاستماع للشيخ، حيث كان من يمتلك جهازًا في منزله يقوم عند إذاعة القرآن بصوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد رفع صوت المذياع لأعلى درجة كي يسمعه جميع السكان. 

بشعبية تعد هي الأكبر لأسلوبه الفريد في التلاوة لُقب عبدالباسط عبدالصمد، بألقاب عدة أشهرها لقبي "صوت مكة"، و"الحنجرة الذهبية"، حيث كان السر في تسميته بـ"صوت مكة" أنه أثناء تأديته فريضة الحج، طُلب منه تسجيل القرآن الكريم للمملكة، فلم يتردد وقدّم تسجيلات عدة منها ما تم تسجيله بالحرم المكي.

قضي ليالي رمضان لعامين متتاليين في المسجد الأقصى عامي 1964,1963، وقرأ القرآن بمساجد الخليل وعمان ونابلس وإربد 1965، وزار لبنان ثم العراق أكثر من مرة، وأحيا ليالي رمضان في المسجد الأموي كأول قارئ مصري يدخل سوريا، وطاف مدن حلب وحماه وحمص، وتم منحه وسام الاستحقاق السوري عام 1956، ووسام الإخلاص في إحدى زياراته الأخرى لدمشق.

اقتحم الشيخ عبدالباسط أسوار التفرقة العنصرية، إذ طلبه المسلمون في جنوب القارة السمراء عام 1966، ولكن حكومة جنوب إفريقيا وافقت على هذا الطلب بعد إلحاحٍ من المسئولين وفوجئ الشيخ أثناء نزوله من الطائرة بوجود ما يقرب من 10 آلاف مسلم في مشهد لا ينسى.

أنهى تسجيل القرآن الكريم كاملًا في 15 يومًا بالمملكة المغربية، بطلب من ملك المغرب الراحل الحسن الثاني، برواية ورش عن نافع المدنيّ، وهي الرّواية التي يقرأ بها أهل المملكة، إذ تمتاز بكثرة مدودها، حيث كان يقرأ جزءًا في الصّباح وآخر في المساء من كلّ يوم.

احتفظت الإذاعات العربية والإسلاميّة بكثير من تسجيلات القرآن الكريم بروايات مختلفة للشّيخ عبدالباسط، وما زالت هذه التّسجيلات تبثّ على نحو دائم.

مثله الأعلى كان الشيخ محمد رفعت، حيث أقرّ بذلك خلال حوار تليفزيوني سابق له، بأن "رفعت" هو مثله الأعلى، قائلًا: "كنت أمشي مسافات طويلة جداً لأستمع إلى القرآن الكريم بصوته، من خلال جهاز الراديو الوحيد الموجود لدى أحد أثرياء القرية".

حصل الشّيخ عبدالباسط على عدد من الأوسمة، منها: "وسام الاستحقاق من رئيس وزراء سوريّا صبري العسلي عام 1956، ووسام الأرز من لبنان، والوسام الذّهبيّ من رئيس حكومة ماليزيا عام 1965، ووسام الاستحقاق من الرّئيس السّنغاليّ عام 1975، والوسام الذّهبيّ من باكستان عام 1980، ووسام العلماء من الرئيس الباكستاني الراحل ضياء الحق عام 1984، ووسام الإذاعة المصرية في عيدها الخمسين عام 1984، ووسام الاستحقاق من الرئيس المصري الراحل محمد حسنى مبارك في يوم الدّعاة عام 1987.

رحل الشيخ الجليل عن عالمنا بعد إصابته بوعكة صحية شديدة بأمراض الكبد، يوم الأربعاء الموافق (21 من ربيع الآخر 1409 هـ = 30 من ديسمبر 1988م) بعد أن ملأ الدنيا بصوته العذب وطريقته الفريدة، ولا يزال يذاع في إذاعة القرآن الكريم بمصر المصحف المرتل الذي سجله بصوته العذب وأدائه الجميل، بتلاوة حفص عن عاصم، مع الأربعة العظام الشيخ محمود خليل الحصري، ومصطفى إسماعيل، ومحمد صدّيق المنشاوي، ومحمود علي البنا، وقد استقبل المسلمون في العالم هذه التسجيلات الخمسة للقرآن بالإعجاب والثناء، ولا تزال أصوات هؤلاء الخمسة تزداد تألقا مع الأيام، ولم يزحزحها عن الصدارة عشرات الأصوات التي اشتهرت، على الرغم من أن بعضها يلقى دعمًا قويًا، ولكنها إرادة الله في أن يرزق القبول لأصوات بعض عباده، وكأنه اصطفاهم لهذه المهمة الجليلة.