رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الليالى العامرة.. حكايات من دار الأوبرا المصرية «3-3»

لماذا يكره المتأسلمون فن الباليه؟

يعود تصور الإنسان عن جسده إلى الخطيئة الأولى، التى لا تزال محفوظة فى الأذهان بفضل التنشئة الاجتماعية. فكشف الجسد أو كشف عورته يرتبط بالمعصية والعقاب والخروج من الجنة، ولذا تأرجح الجسد فى الذهنية العامة بين المباح والممنوع، بين العارى والمستور، وكان على مدى التاريخ الإنسانى موضوعًا لتأملات فلسفية عدة اختلفت بحسب السياقات التاريخية والرؤى الأيديولوجية، كما تعددت المجالات البحثية المعنية بدراسته مثل: علوم السوسيولوجى والأنثروبولوجى والتاريخى والفينومينولوجى.

وارتكزت هذه المجالات على إرث فلسفى عميق نجده فى كتابات أفلاطون، سقراط، ديكارت، وسبينوزا، وهوسرل، وميرلوبونتى، ونيتشه، وفوكو وغيرهم.. فعند أفلاطون: الجسد هو السوء الأكبر لأنه يضع أمامنا ألف عائق وعائق بسبب حاجاته إلى الطعام والرعاية، ناهيك عن أنه يتعرض للمرض ويجرنا إلى الحب والشهوة، بل هو من يزج بنا فى الحروب والمعارك بسبب الرغبة وإرادة امتلاك الثروات، وهى كلها أمور جسدية. وهذا كله يمنع بلوغ الحقيقة فى صفائها. فالجسد لا يوفر لنا التفرغ للبحث الفلسفى، فمعه دائمًا الإزعاج والاضطراب والتشويش. وإن ما يميز الفيلسوف الحق عن بقية البشر يتجلى فى تخلصه إلى أقصى درجة من علائق الجسد. 

وعند سقراط، لا يمكن الوصول إلى الحقيقة فى كل صفائها ونقائها إلا إذا تم التغلب على الجسد فهو سجن للنفس، وما دام الموت سيجعلنا نتحرر من الجسد كليًا، فالموت إذن مطلب عند الفيلسوف، لأن النفس لم يعد لها من يكدر عليها صفوها، وستكون وجهًا لوجه مع الحقيقة. فالفيلسوف الحق هو من يمرن نفسه فى حياته على العيش فى وضع أقرب ما يكون إلى حالة الموت. وهذا ما يفسر عدم انزعاج سقراط من الموت وتقبله له بأريحية لأنها فرصته لكى يتخلص من جسده وتحرير نفسه من قبرها المزعج.

تتوافق رؤية أفلاطون وسقراط مع التصورات الدينية التى ترى أن الإنسان مشكّل من جوهرين متمايزين: روح وجسد، والعلاقة بينهما ظرفية ومؤقتة. فالنفس من طينة إلهية وهى متورطة فى سجن الجسد، وعلى المرء الحقيقى أن يقهر جسده ويسعى للتملص منه.

وظلت هذه التصورات سائدة فى العصور الوسطى حتى تغيرت النظرة للجسد مع رؤية الفيلسوف نيتشه وإعلانه أن الجسد هو العقل الكبير فى مقابل العقل الصغير الذى هو الوعى. وهجومه على الفلسفة الأفلاطونية لكونها «افتقارًا للحياة»، وتوالى الاهتمام بالجسد فى الفلسفات الحديثة وإن ساد منظور التفريق بين الإنسان وجسده، ففى فلسفة ديكارت يتم تعريف الجسد بأنه: آلة صنعها الله بطريقة منظمة تتجاوز فى تفوقها كل الآلات التى يمكن للإنسان أن يخترعها. والإنسان مكون من جوهر مادى هو الجسد الذى يشبه العالم الخارجى، لكونه لا يفكر ولا يختار، فى مقابل جوهر آخر نفسى يفكر ويختار. فأنا إنسان لأن لدىّ جوهرًا مميزًا، هو الفكر والحرية، أى أن ديكارت يفصل الجسد عن النفس.

وقد تأثر برؤية ديكارت العالم «كلود برنار» فقال: إن الجسد الحى ليس إلا آلة عجيبة مزودة بأبهر الخصائص ومتحركة بتأثير آليات غاية فى الدقة والتعقد، وللوصول إلى حل مشكلات الجسد الحى ينبغى تفكيك الجسد شيئًا فشيئًا مثلما نفكك آلة نريد أن نتعرف على كل دواليبها وندرسها. 

ظل الإنسان فى نظر الفلاسفة كائنًا ثنائى الجوهر حتى جاءت الفلسفة الفينومينولوجية التى رفضت فكرة الثنائيات، وأكدت أن الجسد والنفس شىء واحد، فليس هناك ظاهر وباطن، وأن العلاقة بينهما متلاحمة. فالإنسان لا يسكن جسده كربان سفينة. فالربان قد يتفطن لخلل فى سفينته، لكنه لن يحس بذلك كما يحس بالجوع أو العطش.. فبالجسد نعاشر العالم ونفهمه، ونجد دلالة له. نحن نتواصل مع العالم عن طريق أجسادنا، كما أننا عندما نلتقى بالآخر نتعرف عليه بداية، انطلاقًا من ملامح وتحركات جسده، فالجسد هو البوابة الأولى نحو عالم الغير، فالجسد لا يمكن أبدًا فصله عن النفس، فالباطن والظاهر وجهان لعملة واحدة، وأكد هذه الفكرة الفيلسوف الألمانى ماكس شيلر «١٨٧٤- ١٩٢١» فى كتابه «طبيعة وأشكال التعاطف». 

ومع تطور الفلسفة والمعارف الإنسانية لم يعد الجسد نوعًا واحدًا فهناك: الجسد المخفى «بيكيت»، الجسد المشفر «باختين»، الجسد المشرح الذى أعيد تشكيله «وحش فرانكنشتاين»، الجسد المروض والمطيع «فوكو»، الجسد العارى، الجسد المشلول، الجسد المصلوب..

وترى الفيلسوفة الإيطالية المعاصرة ميشيلا مارزانو «١٩٧٠» فى كتابها «فلسفة الجسد» (٢٠٠٧) «إن الجسد هو قدرنا، ليس لأن الكائن البشرى ليس حرًا فى اختيار الحياة التى تناسبه أكثر، وأنه مصمم وراثيًا لإنجاز بعض المهام أكثر من غيرها بسبب طبيعته الجسمية، بل لأن الجسم، وبمعزل عن كل خيار وكل قرار، هو حاضر دائمًا، غير قابل للتجاوز». 

إن الجسد علامة إنسانيتنا وذاتيتنا، وفلسفة الإنسان أو رؤيته لجسده قد تكون هى المفتاح الأهم لفهم علاقته بأمور دنياه الأخرى، ولكن كى يفهم الإنسان فلسفة جسده، عليه أولًا أن يعرف جسده.. أبعاده، إمكاناته، آفاقه. وقد أسهمت هذه المعرفة فى كشف خبايا الجسد، وأطلقت عنانه نحو التعبير الحر، وصارت له فى الساحة العامة سلطة فنية وجمالية وسياسية وأخلاقية لا تضاهى. وهذا ما لا يفهمه المتأسلمون ذوو الرؤية الفكرية المنغلقة على نفسها وحبيسة التصور الأفلوسقراطى القديم.