رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وليد الخشاب: «الراجل ده هيجنني» من ملامح رمضان.. والدويتو دعاية مضادة لأمريكا

 فؤاد المهندس
فؤاد المهندس

 الناقد وليد الخشاب ومنسق الدراسات العربية، جامعة يورك، بدأت رحلته إلى كندا صدفة، وانتهت به منسقاً للدراسات العربية، بجامعة كونكورديا في مونتريال عام 2004، ثم انتقل عام 2007 إلى جامعة يورك في تورنتو ليحصل على منحة لدراسة الدكتوراة في الأدب المقارن والسينما بجامعة مونتريال، ليقدم أكثر من عشرة أعمال بين النقد الفكري والثقافي وكذلك السينمائي آخرها " فؤاد المهندس (مهندس البهجة) ومع قدوم شهر رمضان لم يزل الخشاب يتذكر صدى أغنيات نجم الكوميديا فؤاد المهندس في هذا الشهر الكريم وهو طفل، يحدث للدستور عن تلك الذكريات.

_ "مهندس البهجة" كما أطلقت عليه في كتابك الصادر حديثاً عن الفنان الرائد، كيف صنع خصوصية لشهر رمضان من خلال أغنية"الراجل ده هيجنني"؟

بورتريه للفنان/ الكوميدي الراحل فؤاد المهندس.

من ملامح رمضان الثابتة في ذاكرتنا البصرية اسكتش "الراجل هيجنني"، وهو دويتو غنائي قدمه فؤاد المهندس وصباح من إنتاج التلفزيون في الستينات، فكرة هذه الأغنية المصورة سينمائيا للعرض التلفزيوني، هي أن الرجل يعود من عمله إلى منزله أثناء شهر رمضان، ويعبر عن إحباطه من قلة الأصناف التي أعدتها له زوجته لوجبة الإفطار، فترد صباح قائلة: "يا عالم فهموه/ رمضان ما عمروش قال كده/ رمضان قال احمدوه/ والحمد ماهوش بالشكل ده"، هي ترد على الزوج فؤاد المهندس الذي يتهم زوجته صباح بعدم إعداد ما يكفي رجلاً صائما من أصناف الطعام، مغنياً: "يا خواتي صايم وراجلشقيان ومراتي عاوزة تجوعني"، بينما تدافع الزوجة عن نفسها وتعدد أصناف الأكل والأطباق الشهيةالتي أعدتها لزوجها فؤاد المهندس. "اللحمة ثلاث أشكال/ وطيور بجنيه وريال/ ويوماتي رز ومكرونة/ وكنافة باللوز وعلب تونة".

صورة ل غلاف كتاب مهندس البهجة للماقد الفني والسينمائي وليد الخشاب.

هذا الاسكتش جزء من سياسة ثقافية وإعلامية تربط رمضان بالكرم والرخاء من ناحية، وبالبهجة والمتعة والترفيه، من ناحية أخرى، ويتجلى ربط رمضان بالرخاء في خطاب رسمي وشعبي يستعذب الحديث عن المأكولات الرمضانية، بينما يتجسد خطاب المتعة والترفيه في ربط منتجات درامية ومنوعات بالشهر الكريم، مثل الفوازير والمسلسلات.

هل الأغنية الرمضانية الشهيرة "الراجل ده هيجنني" كانت جزءًا من سياسة إعلامية للدولة؟ وهل كان للمهندس دورا فيها؟

تأكدت صورة رمضان الإعلامية منذ قيام الحقبة الناصرية باعتباره الشهر الذي تصدر فيه وزارة التموين تصريحاً للصحف حول مخزون الياميش والمكسرات وقمر الدين والدقيق، لطمأنة المواطن على قدرة السوق لضمان استهلاكهم من وجبات الحلو المرتبطة بالشهر الكريم، وقد ظل هذا التصريح الذي كان يصدره الوزير، تقليداً طوال العهد الناصري واستمر في عهد الرئيسين السادات ومبارك، فمنطقه أن هناك قدرا من الرفاهية تحققه الدولة للمواطن وتجسيد تلك الرفاهية هو المتع الغذائية الرمضانية، وبذلك تمثل تلك السياسة جزءا من دعاية الدولة وخطابها.

 

ماذا كان رد فعل المستمع والمشاهد لهذه الدعوات للاقتصاد المتضمنة في اسكتش "الراجل ده هيجنني"؟

قد يبدو للوهلة الأولى أن هذه دعوة الدولة في الستينات للتقشف، وبالفعل تحضرنا بعض خطابات الرئيس عبد الناصر وهو ويقول إننا نحن المصريون على استعداد لأن نقتصد في استهلاكنا الغذائي من أجل أن ندخر كأمة، فلا نحتاج إلى المساعدات الغربية التي كانت تستخدم كوسيلة للضغط على الدولة والتأثير على سياساتها، فقد يتبادر إلى الذهن أن الثنائي الغنائي "الراجل ده هيجنني" يدخل في إطار الخطاب الوطني للتقشف، لكن لو تأملنا الكلمات وديكور الاسكتش بإمعان لوجدنا أن ظاهره دعوة لترشيد استهلاك الغذاء – لا للتقشف- وباطنه تفاخر باستطاعة كافة شرائح الطبقة الوسطى أن تسرف في الاستهلاك لأنها تنعم بكثير من الإمكانيات. 

 

لهذا، أشير فى كتابي "مهندس البهجة" إلى الثنائي الغنائي بوصفه أحد تجليات ما أطلقت عليه "أيديولوجية الفودفيل"، فهو إنتاج ثقافي فكاهي، مثل نوع الفودفيل الفني الذي يحكي قصص كوميدية تدعو للتمتع في علاقات الحب وتمتزج بالأغاني، أيديولوجية الفودفيل في المرحلة الناصرية تبثها الأعمال الكوميدية التي تدعو مستهلكيها إلى التمتع بملذات يتيحها فقط الالتحاق بالطبقة الوسطى.

الدويتو يمثل دعاية ظاهرها رسالة ترشيدية، وباطنها التصدى لدعايات أمريكيا ضد مصر الناصرية، التي كانت تشيع أخباراً عن وجود أزمات تموينية حادة بأكبر من حجم الأزمات التي كانت تظهر بالفعل من وقت لآخر، فهي أغنية تقدم زوجين من الطبقة الوسطى يغنيان عن قدرتهما المالية على استهلاك كميات هائلة من الأكل يومياً، فالزوجة لا تعترض على طلبات زوجها بسبب الضغوط التي تمثلها تلك الطلبات على ميزانية البيت، لكن بسبب نفورها من إنفاق الوقت والمال في إعداد كل تلك الأطباق ثم عدم الاستمتاع بها، لأن حجمها وعددها يفوق قدرة شخصين على استهلاكها، أي أن المشكلة ليست إمكانيات مادية قاصرة عن الاستهلاك، بل قدرة فائقة على شراء المأكولات وتحضيرها، تفوق طاقة الاستهلاك بمراحل. 

هل تتواءم كلمات الأغنية في الزمن / اللحظة الأنية مع قسوة الظرف المادي والمعيشي؟

أعتقد أن هذه الأغنية لم تكن ملائمة لقدرات الطبقات الشعبية على استهلاك المأكولات في رمضان، وأنها كانت حالة من تَغَنِي الشرائح العليا من الطبقة الوسطى آنذاك بنفسها وبأسلوب حياتها المتنعم -بمقاييس العصر الناصري التي كان كبار الموظفين فيه من الشرائح الأعلى. وبهذا المعنى، تظل تلك الأغنية بعيدة عن إمكانيات الطبقات الشعبية في الإنفاق على الطعام  عام 2023، لكن في الستينات، بسبب غياب التفاوت الطبقي، يمكن أن نرى في الأغنية دعوة ضمنية إلى الاجتهاد في الدراسة ثم العمل، بحيث يستطيع الفرد من الطبقات الشعبية أن يصعد إلى الطبقة الوسطى بفضل التعليم ثم التوظف، وبالتالي يستطيع -نظريا- أن يحصل على مائدة يومية عامرة، أما في يومنا، فلا تستطيع السوق المحررة أن تضمن الحلم نفسه للطبقات الشعبية بسبب تضاعف أعدادها وارتفاع متوسط الدخول التي تسمح لصاحبها بالانضمام للطبقة الوسطى.

بورتريه للناقد الفني والسينمائي وليد الخشاب.

هل تقتصر بصمة فؤاد المهندس الرمضانية على أغنية "الراجل ده هيجنني"ومسلسلاته الكوميدية؟

من مميزات شخصية المهندس الفنية أن مرونتها سمحت لها بالتطور والتكيف عبر مراحل مختلفة، فهو في الستينات ممثل الطبقة الوسطى الصاعدة في عنفوان الشباب، وبهذه الصفة، كان الزوج القادر على الإنفاق ببذخ على الأكل في اسكتش "الراجل ده هيجنني"، وكان الرجل الذي يسعده الحظ بالدخول إلى الطبقة الوسطى أو الصعود من شريحة إلى شريحة أعلى في تلك الطبقة، يستمتع كذلك بالحب، أما في مسلسلاته الكوميدية مع شويكار التي كانت تضمن للشخصية التي يلعب دورها نصيباً من المتعة الطبقية والغرامية، أعاد المهندس تقديم نفسه على الشاشة الصغيرة بوصفه جد الطبقة الوسطى أو عمها، من خلال عمو فؤاد التي قدمها في فوازير "عمو فؤاد رايح يصطاد" أو "رايح الاستاد" أو "بيلف بلاد". أي أنه قد استمر في لعب دور فني متميز خلال رمضان بعدة عقود من حياته الفنية التي امتدت لحوالي خمسين عاماً، أعاد المهندس إنتاج نفسه كنجم لأعمال موجهة للأطفال، وفرد يمثل دوراً داخل أسر الطبقة الوسطى، العم، أو الجد، الذي يتلطف بالأطفال، ويعلمهم من خلال حكايات ظريفة أو "مغامرات" فاكتسب الملايين من المتابعين الذين يعرفونه ك"عمو فؤاد"، قبل أن يعرفوه"مستر أكس" في فيلم "أخطر رجل في العالم" أو"كمال الطاروطي" في "سيدتي الجميلة".