رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النرويج وإطلالة على «بيت الدمية» «3-3»

بمجرد أن تنظر إلى النرويج وتتبين موقعها على خريطة الكرة الأرضية، يصيبك شعور بالوحدة والخوف، فهى فى أقصى الشمال الغربى لقارة أوروبا، حيث الشمس التى تغيب فلا تشرق أو تشرق فلا تغيب، طبيعة حادة، صارمة، قوامها البرد وملمسها الجليد. وقد كتب المسرحى الشهير إبسن عن شعبه وبلده أن «البيئة الطبيعية الرائعة والقاسية التى تحيط بالناس هناك فى الشمال، والحياة المنعزلة والوحيدة- المزارع على بُعد أميال- تجبرهم على البقاء فى المنزل، وأكسبتهم حب الحكمة والفلسفة». 

الجمال الطبيعى فى النرويج هو جمال خطير، فهو فى العادة بما فيه من بحار وجبال وغابات برية كان مصدرًا للخشية والخوف والقلق، وليس مصدرًا للراحة والإعجاب. هذه الجغرافية الحتمية مع الوضع السياسى العام فى النرويج، حيث عاشت قرونًا بين فكى كماشة القوة السويدية المتعاظمة، والسيطرة الدنماركية التى وصلت إلى حد تسمية عاصمة النرويج «كريستيانا»، باسم ملك دنماركى قبل أن تستعيد عند بدايات القرن العشرين اسمها الأصلى «أوسلو»- لعبت دورًا كبيرًا فى توجه المثقفين النرويج نحو نزعة قومية محلية فى اتجاه الغوص فى الأساطير الإسكندنافية القديمة لربطها بحاضر البلاد وتنقية البطولى منها من شوائب هيمنة الجيران، وظهر هذا جليًا فى أعمال هنريك إبسن المسرحية الأولى التى اتسمت بالنزعة الرومانسية، ولم يتخلص من الأساطير النرويجية ويتبنى المعالجات الواقعية إلا بعد ابتعاده وأسفاره خارج النرويج إلى ألمانيا، الدنمارك، خاصة زيارته لمصر عام ١٨٦٩ ليمثل البلدان الإسكندنافية رسميًا فى احتفالات افتتاح قناة السويس، التى تزامنت مع نشره مسرحياته الواقعية الاجتماعية الكبرى «رابطة الشبيبة»، فظهر مسرح إبسن الذى نعرفه الآن، وفى مسرحيته «بير جنت» تعاون مع الموسيقار إدوارد جريج «١٨٤٣-١٩٠٧»، الذى يعتبر أهم مؤسسى الموسيقى القومية النرويجية، ساهم إدوارد جريج فى تطوير الموسيقى النرويجية الشعبية، ويعد أحد أبرز ملحنى عصر الرومانسية، أعماله انتشرت على نطاق واسع، فتنوعت أعماله بين عدد من السوناتا للبيانو والتشيلو والكمان.

لعبت الطبيعة القاسية للنرويج دورًا مهمًا فى إبداع الفنان التشكيلى النرويجى الأشهر فى التاريخ «إدفارد مونك» حيث ولد عام ١٨٦٣ لعائلة اشتهر أفرادها بشدّة التدين. كان والده طبيبًا فى الجيش، دفعته مسيحيته المتشددة إلى أن يزرع فى نفس الصغير «إدفارد» بذور القلق الدينى. 

وتضافرت الظروف لتجعل من إدفارد شخصًا قلقًا ومسكونًا بالهواجس والأفكار المؤرّقة. ففى عمر الخامسة توفّيت أمّه بالسلّ ثم تبعتها أخته صوفى فى عام ١٨٧٧ التى لم تكن قد أكملت عامها الرابع عشر. وعندما بلغ الخامسة والعشرين مات والده ثم لم تلبث أخته الأخرى لورا أن أصيبت بالجنون لتودع إحدى المصحّات العقلية.

كتب مونك فيما بعد فى مذكّراته يقول: كانت ملائكة الخوف والندم والموت تحفّ بى منذ أن ولدت، ولم تكفّ عن مطاردتى طوال حياتى. كانت تقف إلى جانبى عندما أغلق عينى وتهدّدنى بالموت والجحيم وباللعنة الأبدية». 

أدرك مونك مبكرًا أهمية التعبير عن «الذات» وتأثر بالروائى الروسى الكبير دستويفسكى. وقد قال لأحد أصدقائه ذات مرّة: لم يظهر من الرسّامين بعد من استطاع النفاذ إلى العوالم الموسيقية للروح والميتافيزيقيا واللا وعى بمثل ما فعل دستويفسكى فى الرواية. 

وفى عام ١٨٩٠، رسم سلسلة لوحاته المشهورة «دوامة الحياة» التى يصوّر وتأثر فيها قصّة نموذجية لرجل وامرأة ينتقلان خلالها من الحبّ والعاطفة إلى الغيرة والحزن ثم أخيرًا إلى القلق فالموت. 

وتعتبر لوحته «الصرخة» التجسيد الفنى الأقوى لمشاعر الخوف والقلق، وتمثل اللوحة التى تعد الأشهر عالميًا ذروة القلق الإنسانى، وانكسار الروح. اختار مونك أن يرسم الشخص ذا الوجه الطفولى الذى لا يبدو إن كان رجلًا أو امرأة واقفًا أمام طبيعة تهتزّ بعنف وهو يحدّق فى الناظر، فيما يطبق بيديه على رأسه الشبيه بالجمجمة ويفتح فمه بذهول ويأس. وقد رسم منها أربع نسخ، اشتهرت النسخة الثانية وتُقدّر قيمتها اليوم بأربعين مليون جنيه إسترلينى».

وعن ملابسات رسمه هذه اللوحة، كتب إدفارد مونك فى مذكّراته شارحًا: «كنت أمشى فى الطريق بصحبة صديقين. وكانت الشمس تميل نحو الغروب عندما غمرنى شعور بالكآبة. وفجأة تحوّلت السماء إلى أحمر بلون الدم. توقفت وأسندت ظهرى إلى القضبان الحديدية من فرط إحساسى بالإنهاك والتعب. واصل الصديقان مشيهما ووقفت هناك أرتجف من شدّة الخوف الذى لا أدرى سببه أو مصدره. وفجأة سمعت صوت صرخة عظيمة تردّد صداها طويلًا فى أرجاء المكان».

وقد ظهرت حكايات عديدة تحاول تفسير ما حدث لمونك فى تلك الليلة المشهودة. بعض المحلّلين استوقفهم بشكل خاصّ منظر السماء فى اللوحة وقالوا إن هالة ما أو غسقًا بركانيًا قد يكون صَبَغ السماء والغيوم باللون القرمزى فى ذلك المساء. ويحتمل أن يكون ذلك المشهد قد ترك تأثيرًا انفعاليًا دراماتيكيًا على مونك.

إن اختيار النرويج ضيفًا شرفيًا لمعرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته المقبلة سيكون فرصة عظيمة للاقتراب من عالم الثقافة النرويجية الغنية، التى تعبر عن الروح الإنسانية فى جوانبها المتنوعة.