رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فريد تادرس في ثياب محمد مشالى



الذاكرة الجمعية المصرية لا تنسى أبدًا طبيب طنطا العظيم الدكتور محمد مشالي، الذي رحل عنَّا قبل سنوات، وجاء خلود مشالي لأنه تعامل مع الطب كرسالة إنسانية، عاش حياته بسيطًا رقيق الحال، ولكنه عميق الأثر في قلوب محبيه وعارفي فضله، ولم يلتفت الإعلام المصري لظاهرة الدكتور محمد مشالي إلا في سنوات عمره الأخيرة، لذلك سعدت عندما رأيت بعيني شارعًا في مدينة الشروق يحمل اسم الدكتور محمد مشالي.
هذه المقدمة أسوقها كي أقول إن هذا الشعب لا تتوقف عجائبه، فعلى الرغم من ظاهرة الطبيب المليونير إلا أن هناك قطاعا آخر من الأطباء لمسته أوجاع الإنسان وحاجته الضرورية للراحة والعلاج، هذه الفصيلة النادرة تعيش بعد موتها خالدة في الذاكرة والتاريخ، والكلام هنا ليس عن رموز المهنة، مثل الموهوب مجدي يعقوب و لا العبقري محمد غنيم رائد جراحات الكلى بالمنصورة ولا المبدع محمد أبو الغار العالم الكبير في طب النساء والمثقف رفيع المستوى.
دائما يأسرني أبطال الظل مثل ظاهرة الدكتور مشالي.. وكان للإسماعيلية نصيب من هذه النماذج المبهرة إنه الدكتور عصام فريد تادرس الذي رحل عن عالمنا قبل أسابيع واحتشد المسلمون قبل الأقباط لوداعه وللعزاء في كنيسة مارجرجس بالقصاصين، فما هي حكاية الدكتور تادرس الذي رحل وقد تجاوز الثمانين من عمره.
الرجل مواليد القاهرة فى 4 يونيو 1939 تخرج فى كلية الطب جامعة عين شمس 1962، وبدأ حياته العملية بعد التخرج فى محافظة الشرقية.
الحكاية أغرب من الخيال تادرس المتخصص في الأنف والأذن والحنجرة لم تزد قيمة الكشف بعيادته عن عشرة جنيهات حتى آخر لحظة في حياته، بينما إعادة الكشف فكانت ثلاثة جنيهات ونظرًا لعلاقته القديمة بالجنود في حرب الاستنزاف فقد حدد لهم قيمة الكشف بجنيه واحد لا غير.
هذه ليست أسطورة يصنعها الناس لمن يحبون، ولكنها حقيقة عاشها أبناء مدينة القصاصين والمدن المجاورة مثل التل الكبير وأبو صوير وفايد لذلك كان الحزن على رحيله صادقا ومؤلمًا.
كيف بدأت حكاية تادرس معنا، جاء إلى الإسماعيلية وارتبط بها زمن حرب الاستنزاف بعد 1967، ومن وحدة صحية إلى مستشفى مناضلا بالعلاج وتخفيف الآلام ثم افتتح عيادته فى القصاصين الجديدة عام 1979 ويقول القريبون منه إن إيجار العيادة من مجلس المدينة في حينها بلغ 180 قرشًا.
خمسون عاما أو يزيد والرجل راهب في البالطو الأبيض لذلك لم يكن غريبا أن يتولى أثناء خدمته بوزارة الصحة موقع المدير لمستشفى القصاصين المركزى.
لم تكمن إنسانية تادرس في قيمة الكشف فقط ولكن في الرعاية الفائقة التي كان يوليها لمرضاه حتى إنه يعرف معظمهم بالاسم ويعرف مشاكلهم في بيوتهم.
الدكتور تادرس المولود في القاهرة والممسوس بالإسماعيلية اختار سكنة في مدينة الزقازيق شرقية.. رجل منضبط كالساعة يتحرك في قطار السادسة صباحًا من الزقازيق ليبدأ عمله في عيادته مبكرًا ولا يتوقف التوافد عليه طوال النهار حتى تخلو صالة الاستقبال من الزائرين فينهض عائدا لبيته.
يحكي أبناء القصاصين عن تادرس القبطي والوحدة الوطنية أنه لم يفرق أبدًا في المعاملة بين مسلم ومسيحي، بل ذات يوم كرمته إدارة الأوقاف لتبرعه السخي من أجل بناء مسجد مجاور لعيادته.
لم يكن تكريم الأوقاف لتادرس هو التكريم الوحيد، ولكن أكثر من جهة حكومية وغير حكومية تحمست لتكريمه وكان تادرس الزاهد يعتذر بلباقة، فهل يفعلها محافظ الإسماعيلية شريف بشارة ويصدر تعليماته بإطلاق اسم عصام فريد تادرس على واحد من الشوارع المستحدثة في الإسماعيلية تكريمًا واعترافًا بالقيمة النبيلة التي مرت علينا، مثل هذا التكريم لن يسعد تادرس في قبره، ولكنه سوف يسعدنا كمواطنين، مثلما حطت السعادة في قلوبنا عندما قرأنا اسم الدكتور محمد مشالي على شارع بمدينة الشروق.