رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اللعنة التى تصيب العائلات التى لا تنجب سوى الذكور

جلسا بجوار بعضهما البعض، فى البلكونة المطلة على محطة مترو المرج.. كانا شقيقين أحدهما أكبر من الآخر بثلاث سنوات، ولدا فى بلدة بعيدة عن شرفتهما بكثير، كانا الأصغر فى ترتيب خمسة إخوة، وكانا من عائلة اشتهرت بإنجاب الصبيان، فكان وجود أخت أو عمة فى العائلة شيئًا نادرًا، وهذا الأمر أثر كثيرًا على ذكور العائلة، فقد اتسموا بصلافة فطرية، حتى وإن اتصف أحدهما بالطيبة كانت طيبة لا تخلو من جفاء.

كانت الروح التى تسرى فى العائلة روحًا جافة، لا تعرف الطبطبة والحنان والمحايلة واللطف، التى تتسم بها العائلات التى يغلب على نسلها البنات، خاصة إذا كانت البنات هن الأكبر سنًا، فيتعرف الأولاد الصغار على النساء عن قرب، ويدركون حنان أخواتهن الكبار وحدبهن عليهم، فيعرفون دون شعارات ولكن بالخبرة وتكرار المواقف اليومية، أن النساء كائنات إنسانية غير ملغزة، ويشعر الصبى بأهميته من قدرته على أن يكون موضع سر أخته الكبيرة: حين يذهب ليشترى لها «الفوط الصحية»، ويشاهدها وهى تتوجع، لكنها تتحامل على نفسها بعد أن تشرب كوبًا من القرفة الدافئة، كى تقرأ له كلمات الوحدة التاسعة من منهج my teacher.

لم يكن لعائلة الشقيقين أى نصيب من هذه الوشائج بعالم النساء، فكانت أحكامهم قاطعة، ولم يكن أفرادها يلتمسون أعذارًا لأحد، أو يدركون التغيرات الخفيفة التى تحدث فى الطبيعة حين تغضب أو تتوتر أو تقلق.

وكانت فتيات الأسرة القليلات يعانين من هذه القشرة الصلبة، التى تغلف آباءهن أو إخوتهن أو أعمامهن. كانت نساء العائلة تاريخًا سريًا لا يحب الرجال الإشارة إليه أو تذكره.

وكانت مواليد العائلة من الإناث على قلتهن يندثرن ويختفين من فوق الأرض كحفريات، دون أن يتركن أثرًا أو نسلًا، فلم يختبر رجال العائلة مشاعر الخال، كانوا دائمًا أعمامًا يؤمنون بقرابة العصب ولا يعرفون صلة الرحم.

امتدت تلك المعاناة منذ الجد الخامس بعدما حرقت ابنته نفسها لرفضها الزواج من ابن شقيق الجد.. بعدها توالى الغرق، الحرق، الإصابة بالعمى، شرب المبيد الحشرى، الإيداع فى مصحة العباسية. 

وحدث فى الجيل السادس من العائلة تحول دراماتيكى.. فالسلف كان يؤكد أن كل رجال العائلة لا ينجبون بنات، وعلى سبيل الاستثناء قد ينجبون بنتًا واحدة على الأكثر، وعلى الأب والإخوة فى تلك الحالة أن يقوموا بدورهم القدرى فى دفعها للجنون أو الانتحار.

كان ذلك يحدث بشكل عفوى فطرى تلقائى، دون تخطيط، وتفسير للأمر سوى أنها «لعنة النساء»، وأن تلك اللعنة مرض سرى، وبلاء يخص العائلات التى يبتليها الله بإنجاب البنات، وكان ذكور العائلة يحمدون الله أن خفف من مصيبتهم، واكتفى برمى عائلتهم بلعنة واحدة لا أكثر. وكان ذلك من دواعى فخرهم ومصدرًا للتباهى بأنفسهم وأنهم من نسل مبارك، ولولا رقة حالتهم المادية وعدم حصولهم على قدر كبير من التعليم لعدوا أنفسهم من الجنس الآرى، ولكنهم كانوا يمتلكون فخرًا أكبر بأصول جدهم الحجازية، وقد تأخذ أحدهم الجلالة ويدعى أنهم من آل البيت. ولأنهم لم يكونوا يمتلكون شجرة نسب أو خريطة تؤكد ذلك، فكانوا يتصاغرون قليلًا ويؤكدون أنهم «نسل طاهر»، وحين يقولون تلك العبارة كانوا لا يقصدون سوى خلو عائلتهم من بلاء النساء.

حدث التحول حين رزق الابن الخامس من الجيل السادس البنت الأولى والثانية والثالثة.. يا الله كانوا يوجهون اتهامًا صريحًا للأم القاهرية بأنها السبب ويحاولون أن يدفعوا ابنهم للزواج من أخرى، وألا يقرب هذه المرأة المصابة بلعنة إنجاب البنات، لكن الرجل لم يفعل، بل إنه انتقل من قريته وسكن بالقاهرة حيث كان يقيم أهل زوجته. 

كان الأعمام ينتظرون أن تقع اللعنة، أن يتحقق قدر السماء، كانوا يتبادلون تفكيرًا سريًا، أى من البنات الثلاث ستكون الضحية أو القربان، الذى سيفدى بقية الذكور الذين يضمنون بقاء سلسال العائلة. 

لكن القدر كان قد غير خططه، فعاشت البنات الثلاث حياة طبيعية فيها من المسرات والمبكيات ما يدخل فى نطاق اليومى والعادى، فى حين بدأ ذكور العائلة فى التعرض لأحداث أصبحت تتوالى بشكل جعلهم يفكرون فى تبدل الأحوال وتبادل اللعنات، فما من واحد منهم إلا واختبر أحداثًا جعلته من المرويات: منهم من أصيب بالبهاق وشيب الشعر بعد أن قابلته «جِنيّة» وهو عائد بعد منتصف الليل، ومن مات غريقًا بعد أن ضربته نوبة الصرع وهو يسير بمحاذاة ترعة «الإسماعيلية»، ومن أصابه الخرس بعد أن سكن ورم خبيث حنجرته، ومنهم من انضم لتنظيم داعش، و... و... 

يا الله ماذا نفعل نحن نساء العائلة فى هذه اللعنة التى تصيب العائلات التى لا تنجب إلا الذكور؟!