رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يومًا ما.. من غير مصلحة

ما أعظم الرزق فى الأصدقاء الأوفياء وإنه لرزق لو تعلمون عظيم، فى وجودهم تنساب الهموم وتجد المعين على الحياة، فتمضى الخطوات فى نهر الطريق تنطلق ويمنحونك مظاهرة حب لا تعرف نهاية، تتقاسم معهم الأحلام ونسعى إليها لتكون واقعًا.
جلست ذات يوم أتصفح أوراقي وقع بصري على مقولة للأديب العالمي نجيب محفوظ تقول «ما أجمل الغرباء حين يصبحون أصدقاءنا بالصدفة، وما أحقر الأصدقاء حين يصبحون غرباء فجأة»، لا أدري لماذا ارتعد جسدي وأخذت أتأمل وأسبح في بحر الذكريات كسفينة تبحث عن مرسى، تتمايل مع الأمواج دون جدوى، فلا تجد من ينقذها من التخبط، وتذكرت الكثير.
للحق أعترف أني كنت من المحظوظين طيلة حياتي، فقد منحني الله أصدقاء رائعين، تقاسمت معهم الذكريات وكنت حريصة على ذلك أشد الحرص، حتى وإن كانت ذكريات سيئة في بعض الأحيان، لكنها حتمًا كانت عفوية أضحكتنا كثيرًا مع مرور الزمن عندما نتذكرها، فكلما تقدم العمر لحظة وراء الأخرى يكون لزامًا علينا أن نسترجع شريط العمر ونسمح له أن يمر أمام أعيننا، كي نتذكر ونسترجع الزمن.
أيام الصبا والطفولة كانت الأروع دون شك، فهي خالية من مصطلح «المصلحة»، أجمل ما فيها المدرسة وأصدقاء الفصل و«أشقاء التختة» والرهبة من الخروج إلى «السبورة» والنجاح في الامتحانات والإخفاق في الواجبات جميعها لو تعلمون مشاعر عميقة متباينة، كان الصراع فيها يحكمه التفوق والنجاح لا المصلحة والصعود على أكتاف الآخرين، وكان النزال هناك شريفًا كأرض المعارك التي جمعت الفرسان الأشداء والجميع يتبارى كل حسب قدراته وإمكانياته.
بمرور العمر، بدأ مصطلح الصداقة يأخذ شكلًا جديدًا خارجًا عن المألوف أو عن الذي اعتدت عليه في أوقات سابقة، فقد أصبحت المصلحة سائدة، تتحكم وتحكم، تقرر وتخطط، لكن يأخذني الحنين دائمًا لشخص أتسامر معه، أتقاسم معه اللحظات السعيدة والمريرة، يعيش أحزاني وأفراحي، وهنا صدقت بيت ميدلر حينما قالت «أصعب أمر في النجاح هو العثور على شخص يفرح من أجلك».
وكبرت وانخرطت في دوامة العمل، ووجدت أن الصداقة تذوب مع إيثار النفس البشرية لذاتها، وأيقنت أن دوامة الحياة لن تجد من يمنحك جزءًا من وقته أو يقتطع لحظات ليسمعك، واستوعبت أن الصداقة في العمل تخالف شريعة الحياة، فتخيل أن يصبح صديقك مثلًا «مديرًا لك»، أنه ما إن يتقلد المنصب حتى تأخذه العنجهية والغطرسة وتتبدل الأحوال بينكما بين ليلة وضحاها، ولم يعد الطريق بينكما ممهدًا كما كان.
ومع ذلك فإنني أستمتع بصحبة لا بأس بها بين زملائي، وذلك كله لم يمنعني من تكوين صداقات خارج مجالي، فأنا أدرك قيمة الصداقة فهي كصحة الإنسان، لا يعرف نعمتها إلا من فقدها، وهي حلمٌ وكيان يسكن الوجدان، ففي أحلك اللحظات نتعلق ببصيص من الضوء نتلقاه مِمَن هو قريب لك.
ومن حكمة المشوار القليل الذي لم يكمل الثلاثة عقود استخلصت أن هناك أصدقاء يحتاجهم عقلى، وأصدقاء يحتاجهم قلبى، وهناك أصدقاء أحتاجهم لأنّي بدون عنوان بغيرهم، وحقًا الصداقة أسمى حب في الوجود، فهي كنز لا يفنى أبدًا، ورمز للخلود والحب الطاهر بدون نفاق أو حسد أو غيرة، والصداقة الحقيقية هي التي لا تنتهي أبدًا، تبقي بداخلك إلى الأبد، هي شمس لا تغيب وفرحة لا تنطفئ، فهي الوجه الجميل للحياة، هي الوجهُ الذي يُبقيك مبتسمًا مهما أثقلتْكَ الحياة، هي السّند والعون واليدُ الحانية، وكنزٌ ثمين لمن يقدّرها ويحافظ عليها، هي العلاقة التي تجبرك عندما تنكسر، وتُربت على كتفك عندما تحزن، وتقوّيك عندما تضعف، وتسندك عندما تقع.
باختصار الصداقة هي العلاقة التي ليس للمصلحة فيها مكان.