رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود عوض يكتب: بليغ حمدي.. الرحيل فى منتصف جملة موسيقية

محمود عوض
محمود عوض

كان الأستاذ محمود عوض (١٩٤٢-٢٠٠٩) كاتبا من نسيج خاص.. كان يجمع بين رشاقة الأسلوب وعمق الفكرة.. جاذبية العرض وأصالة الموقف.. صداقة كبار الفنانين وعدم الوقوع في أسرهم.. الاهتمام بقضايا العرب في الأمم المتحدة ومعرفة أدق تفاصيل حياة عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم.. دفعته موهبته إلى القمة في وقت قليل.. تعثرت قدماه في قضية اتهم فيها استاذه مصطفي امين ١٩٦٥لكن ثبتت براءته التامة ..تلقفه احسان عبد القدوس ليفرض عليه ان يصبح كبيرا بالقوة ..منحه الصفحة الاخيرة في اخبار اليوم وطلب منه ان يبدع ..اقنع ام كلثوم ان تروي له قصة حياتها ..ثم اقنع عبد الوهاب بنفس الفكرة وكتب عن كل منهما كتابا بعنوان (فلان الذي لا يعرفه أحد)..صادق عبد الحليم حافظ وكتب له المسلسل الاذاعي الوحيد الذي لعب بطولته ..ومن خلاله عرف بليغ حمدي..

 

في هذا العدد نعيد نشر مقال رائع كتبه (بليغ حمدي الكتابة )عن (بليغ حمدي النغم)ونشره في كتابه (من وجع القلب )الصادر عن دار المعارف.. فالي المقال

 

يندهش المرء كثيرًا- فالكاتب لا يساوى شيئًا إذا لم يندهش- كيف يطاوعه القلم فى كتابة مقال منتظم ليتم نشره فى موعد محدد سلفًا.. ثم يعصيه القلم تمامًا فى الكتابة عن حدث مفاجئ يهز النفس هزًا؟ كيف أجلس إلى مكتبی مرتين وثلاث مرات أسبوعيًا لأكتب مقالات تنشر فى لندن والرياض والخليج.. ثم لا أستطيع الجلوس لأكتب مقالًا ينشر فى القاهرة؟ كيف يُقدر لى أن أندمج بسهولة فى قضايا كبيرة وبعيدة؟ قضايا كالزلزال السياسى فى موسكو أو حرب الإبادة فى البوسنة؟ أو الفوضى التى أصبحت نظامًا دوليًا.. والأمم التى لم تعد متحدة.. ثم لا أستطيع أن أندمج مع قضية اسمها بليغ حمدى؟
يندهش المرء كثيرًا وكثيرًا. لكن القلم لا بد أن يطاوعه فى هذه المرة. ليس لأكتب عن صديق كبير أقتطع معه جزءًا من عمرى.. ولكن لكى أكتب عن الفكرة التى كانت: بليغ حمدی. إن المشكلة التى تظل محيرة دائمًا ليست: ماذا أكتب.. ولكن: من أين أبدأ.
أستطيع أن أبدأ من تلك اللحظة التى سقطت فيها الصحيفة من يدى فى ذلك الصباح من سبتمبر. لحظة قراءة الخبر المفجع: وفاة بليغ حمدى فى باريس. فى الواقع إن بليغ ذهب إلى باريس فى هذه المرة وهو ينوى من الأصل أن تكون زيارته الأخيرة.
وقبيل سفره من القاهرة اتصل بى تليفونيًا، وفى رقته المعهودة، ليسألنى: هل أريد شيئًا من باريس؟ إنه مسافر خلال يومين أو ثلاثة. لا يا بليغ. أشكرك.. ولكن لماذا السفر؟ وما وجه الاستعجال؟
لا.. ليس هناك استعجال. فقط هو لديه تلك الشقة الصغيرة فى باريس منذ أيام الغربة الاضطرارية. الآن يريد أن يبيعها لأنه لن يغادر القاهرة بعد ذلك أبدًا. ثم: لکی يراجع أيضًا حالته الصحية مع الأطباء المعالجين له هناك.
واتفقت مع بليغ على أن يمر علىّ فى منزلى فى السابعة من مساء اليوم التالى. ثم قلت له: یا ریت یا بلیغ تجيب معك الملف الطبى عن حالتك الصحية. إنه وعدنى بذلك. لكن اللافت أنه لم يسألنى بالمرة عن السبب.. وما الذى أفهمه أنا طبيًا أصلًا حتى أهتم بمجموعة تقارير طبية من هنا وهناك.
فى الموعد المحدد جاء بليغ. وخلال لحظات عرّفته على صديق عزیز آخر سبقه بالحضور، هو الدكتور علاء الزيات، أحد أبرز وأكبر أساتذة الأمراض الباطنية والقلب فى مصر. لم يكن شيئًا مألوفًا بالمرة أن يترك طبيب بحجم علاء الزيات عيادته ومرضاه ومستشفاه فى ضاحية «المعادى»، جنوب القاهرة، لكى يأتينى على هذا النحو المتعجل. لكننى كنت قد شرحت له فكرتى بالضبط، فتجاوب معها فى التو واللحظة.. کرمًا منه وتقديرًا لمكانة «صديق شخصی» لى، ويهمنى أمره، وأرجو أن أطمئن منه على حالته.
لحظات أخرى والكلام جاب کلام. نعم يا بليغ.. هذا هو بالضبط علاء الزيات، ووالده هو الأديب الكبير الراحل أحمد حسن الزيات. وبليغ يتحدث فورًا عن مجلة «الرسالة» التى كان يصدرها الزيات، ومجلداتها التى كان والده يحتفظ بها. هذا أيضًا هو بليغ حمدى يا دكتور علاء الذى تحتفظ فى سيارتك بشرائط لأحدث ألحانه.
وفى اللحظة التى بدأ فيها الدكتور علاء يقرأ صفحات الملف الطبى الذى جاء به بليغ ،كانت تساؤلاته تسبق الأوراق أمامه. نعم بليغ حدث له هذا وهذا.. نعم لقد عانى من هذا وهذا.. نعم يحدث له انتفاخ كبير فى المعدة بمجرد أن يأكل شيئًا. نعم، توقف تمامًا عن التدخين.. إلخ.. إلخ.
بعدها انتحى الدكتور علاء الزيات ببليغ فى جانب آخر من البيت ليطلب منه الاستلقاء متمددًا حتى يبدأ فحصه. إن الكبد هى المشكلة. والمشكلة جادة تمامًا لكنها قابلة للسيطرة بشروط. وبليغ متجاوب تمامًا مع كل الشروط. فقط هو سيخطف قدميه إلى باريس فى هده المرة ليكتب توكيلًا ببيع شقته الصغيرة هناك ويعود على الفور. إنها أيضًا فرصة ليأتى بالأدوية المحددة التى كتبها له الدكتور علاء الزيات. لكنه سيعود سريعًا لأنه لم يعد يريد أن يغادر مصر بعد ذلك.
فى الساعة التالية انضم إلى جلستنا المزيد من الأصدقاء.. من بينهم الصحفى القدير غنيم عبده، والمذيع اللامع محيى محمود. ومع اتساع أطراف الحديث تفتحت شهية بليغ حمدى للحكايات والذكريات. وعلى غير العادة كانت كلماته تنساب حبلى بالكثير من التساؤلات.. وشىء من المرارة.. مركزًا الحديث نحوى بين لحظة وأخرى: فاكر يا محمود أم كلثوم كانت تتعامل معانا إزاى؟ فاكر لما كان فلان وفلان وفلان يطلبون منا- أنت أحيانًا وأنا أحيانًا- التوسط عند أم كلثوم؟ فاكر اللى حصل فى أغنية «حكم علينا الهوى»،؟ فاكر لما تصالحنا عندك فى البيت.. أنا وعبدالحليم؟ فاكر أغنية «موعود»؟ و«العيون السود»؟.. إلخ.. إلخ.
*
فى تلك اللحظات لم يكن بالى مع بليغ بالمرة. لم نكن قد التقينا منذ شهور. ولم يكن مفاجئًا لى شىء أعرفه من التدهور فى حالته الصحية. لكن المفاجئ إلىّ تمامًا هو أن أراه على هذه الحال. الروح موجودة. الذهن المتوقد كما هو. التدفق طبیعی. لكن شيئًا ما أصبح مفقودًا. إننى لم أكن أريد لوجهی أن يفضح انفعالاتى الداخلية. وفى نفس الوقت لم أكن قادرًا تمامًا على مسايرة بليغ فى كل هذا الشريط المتدفق من الذكريات. وبلیغ مستمر. ومع استمراره تتوالى تساؤلاته: هل قرأت ما كتبه فلان؟ هل شاهدت ما رواه علان؟ إنهم يسرقوننا ونحن أحياء.. إنهم يلفقون لأنفسهم ما لم يكن لهم.. حتى ذكرياتنا يسرقونها منا. أين كان هذا.. وهذا.. وهذا؟
كان وجود الأصدقاء المشاركين فى الجلسة عنصر امتصاص لتساؤلات بليغ يعفینی من الإجابة. لكن المشكلة هى أنه بين الحكاية والحكاية يتجه بلیغ بتساؤلاته نحوی من جديد. والتساؤل المتكرر هو: لماذا لا تكتب؟ تكتب عن كل شىء وكل شخص. لقد كانت أسرارنا جميعًا عندك، وأنت كنت قريبًا منها وشريكًا فيها ودائما نقضى بها إليك. أكتب عن أم کلثوم. عن عبدالحليم. عن كمال الطويل. عن محمد الموجى، عن.. وعن.. وعن.
لقد أدهشنى كثيرًا هذا الإلحاح من بليغ. إنها المرة الأولى التى يرجونى فيها على هذا النحو. رجاء فيه القليل من الطلب وشىء من التألم والكثير من الاستغاثة وفائض من المرارة. إنها المرارة من هذا القدر الجديد الشائع من التبجح على الحقيقة. ماذا جرى للناس؟ للحق والخير والجمال والأمانة والاختفاء والحياء؟ ماذا جرى للرقة، للوفاء؟ للانتماء؟ للحقيقة وللصدق؟
إن بليغ لا يشكو بالضبط، ففى الشكوى انحناء. إنه فقط يتساءل ويتساءل. والذكريات يزاحم بعضها البعض.
لقد أعطی بلیغ موسيقاه وألحانه لكثيرين فى مصر والعالم العربى. فى الواقع سوف يكون من الأسهل إحصاء الأصوات الغنائية التى لم يلحن لها بليغ، عن تعداد الأصوات التى لحن لها. لم تكن فقط أحلى ألحانه مع أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وشادية ووردة ونجاة ومحمد رشدی. لقد كان يبحث دائمًا عن الأصوات الموهوبة الجديدة.. من عفاف راضى إلى شيرين وجدى.. ومن ميادة الحناوى فى سوريا إلى سميرة سعيد فى المغرب ولطيفة فى تونس. وكان يفرح كطفل كلما وضع أذنه على صوت موهوب جديد.
فى الواقع هو الذى كان يسعى إلى الصوت الموهوب الجديد بأكثر من العكس. لقد جعل عفاف راضی، مثلًا، على لسان مصر كلها من أول أغنية، وحينما كان المصريون يغنون مع عفاف راضی «ردوا السلام»، كان بليغ هو الذى يتولى عنها مهمة كاسح الألغام داخل الساحة الغنائية. لقد رأيت محمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ مرات عديدة وهما مترددان تمامًا أمام حماس بليغ. لكن النجاح فى النهاية يصبح له منطقه الخاص وقوة دفعه الذاتية. فلأن عبدالوهاب وعبدالحلیم شریکان معًا فى ملكية شركة وصوت الفن المحتكرة لألحان بليغ حمدى وقتها، يصبح نجاح اللحن الجديد من بليغ عنصر ترطيب للمصالح المتقاطعة.
وبليغ لم يكن شيئًا إلا إذا تحمس. إنه يتحمس لصوت. لفكرة. لنغمة. لجملة موسيقية. حياة بليغ ذاتها هى مجموعة من الجمل الموسيقية. فيها المتعة أحيانًا.. والشوق أحيانًا.. والألم أحيانًا.. وحبه لمصر دائمًا.
فى أعقاب كارثة يونيو ١٩٩٧ مثلًا كانت الصدمة الكبرى. لم تكن كارثة يونيو مجرد هزيمة. كانت زلزالًا نفسيًا لنا جميعًا. لقد وقعت مصر.. وأعد لها كثيرون برقيات العزاء.. بل وطريقة الدفن. وفجأة خرج بليغ حمدى، بموسيقاه وصوت شادية وكلمات محمد حمزة، بأغنية تعبئ مشاعر المصريين وتشحذ همتهم جميعًا. وفى كل الأغانى التى لحنها بليغ كانت الفكرة تبدأ من داخله أولًا.. خصوصًا كلما تعلق الأمر بشحنة حب يصبها فى قلب مصر ووعيها.
هكذا أصبحت أغنية «يا حبيبتى يا مصر» على لسان الملايين فى لمح البصر. وبلغ من إلحاح الناس على طلب الأغنية من الإذاعة.. أن الكاتب الكبير الراحل فكرى أباظة قال مداعبًا فى حديث إذاعى وقتها إنه أصبح يسمع تلك الأغنية بالذات ألف مرة فى اليوم.. ليس فقط فى برامج ما يطلبه المستمعون.. ولكن فى الشارع والنادى والمقهى والتاكسى.. فى الصباح والمساء ومنتصف الليل. هل تفعل أغنية واحدة بالناس كل هذا؟
نعم. من بليغ حمدى.. كل هذا. وإذا تعلق الأمر بمصر.. أكثر من كل هذا.
*
مع شهر أكتوبر سنة ١٩٧٣ تعمقت الذكريات من جديد. إنه شهر رمضان، ذروة المنافسة بين محطات الإذاعة المصرية. وأصبحت محطة إذاعة الشرق الأوسط فى المقدمة مسبقًا بمجرد تعاقدها مع عبدالحليم حافظ على بطولة المسلسل الدرامى الذى سيذاع يوميًا عقب الإفطار فى حلقات متتابعة. مسلسل عن قصة من تأليفى بعنوان «أرجوك.. لا تفهمنى بسرعة».. وتولى إخراجها للإذاعة المخرج الإذاعى الراحل الكبير محمد علوان. وسواء قبل أو أثناء الاندماج فى هذا العمل الفنى.. أصبح من الطبيعى أن نكون جميعًا مشدودين إلى بعضنا البعض أكثر وأكثر. هناك عبدالحليم حافظ وشركاؤه فى البطولة عادل إمام ونجلاء فتحى وعماد حمدى والآخرون. هناك أيضًا أغانى المسلسل ويقوم بتلحينها محمد الموجى وبليغ حمدى ومنير مراد. هناك أيضًا ضغط الوقت.. لأن كل محطات الإذاعة فى العالم العربى تعاقدت مسبقًا على إذاعة الحلقات مع القاهرة فى نفس الوقت.. إن لم يكن السبب فيكفى أنها المرة الأولى التى يتحمس فيها عبدالحليم حافظ لأداء البطولة الدرامية والغنائية فى مسلسل إذاعى.
وفى اليوم العاشر من رمضان- السادس من أكتوبر- جاء الخبر القنبلة. لقد بدأت حرب أكتوبر. حرب تأخرت؟ تأجلت؟ طال انتظارها؟ كله وارد. لكنها جاءت أخيرًا لتصبح هى بذاتها ما سميته «اليوم السابع» لحرب يونيو، فى هذه المرة لا تتحرك مصر فقط.. ولكنها مصر وسوريا معًا. إنها بالضبط نفس صيغة النجاح بامتداد قرون طويلة.. كلما عادت الروح إلى العالم العربى.
وأصبحنا نعمل بروحين. إن إذاعة القاهرة أوقفت فورًا كل برامجها العادية لكى تتفرغ لمتابعة تطورات الحرب. لكننا مضطرون للاستمرار فى تسجيل حلقات «أرجوك.. لا تفهمنى بسرعة» لكى تذاع فى المحطات الأخرى المتعاقد معها بامتداد العالم العربى. فى نفس الوقت نحن مندمجون بالكامل، نفسيًا وعقليًا، فى متابعة مجريات الحرب. إن الإظلام كامل فى العاصمة ليلًا. لكن الناس يرى بعضها البعض وكأن نورًا داخليًا ينطلق من داخلهم لكى يضىء بينهم كل المسافات. الكل يريد أن يسهم بأى شىء.. بكل شىء.. ليصبح فى مستوى هذا الأخ أو الشقيق أو الجار الذى يقاتل فى سيناء بمثل هذا الأداء المدهش الذى تدرب عليه وحفظه ومارسه فعلًا طوال حرب الاستنزاف سابقًا.
واختفی من بيننا بليغ حمدی. ساعة وساعتين ثم: بليغ فى الإذاعة يسجل أغنية جديدة لكى تؤديها المجموعة. إنها أغنية «باسم الله». يوم ويومين: بليغ يختفى من جدید، ثم: أنا فى استوديو ٤٦ جای لك حالًا ومعايا مفاجأة، ويجىء بليغ لنسمع معه هذا الشريط. إنها أغنية على الربابة التى لحنها وسجلها لتوه بصوت «وردة». هكذا تكرر اختفاء وظهور بليغ طوال أيام حرب أكتوبر. وتكررت ألحانه التى كانت تخرج من قلبه إلى قلوب الملايين جميعًا فى لحظات.
إن أحدًا لم يطلب من بليغ أى شىء.. ولا كلفه أحد بأى شىء. يكفيه أن محبوبته هذه- مصر- قد سمعته يشدو لها فى لحظة انتكاسها، ويؤمن بقوتها فى لحظة ضعفها، وينفخ فى روحها فى لحظة تمزقها. إنها الآن كما تمنى لها بالضبط: قوية وعصرية وشامخة ومتوحدة مع كل أبنائها الذين جعلوا الرمال جزءًا من طعامهم اليومى لست سنوات من أجل هذه اللحظة.
لكن بليغ لم يعد يكتفى بالنداء «يا حبيبتى يا مصر». بليغ يتغنی بنداء «الله أكبر» المجرد أنه كان نداء المقاتلين المصريين- مسلمين ومسيحيين- وهم يعبرون قناة السويس إلى سيناء بسلاحهم. وبليغ يغنى لمحبوبته التى لم تهتز ثقتها بنفسها أبدًا. يغنى لها على الربابة منتشيًا: تعیشی یا مصر. بليغ ينفعل. يفكر، ويكتب. ويستدعی شاعرًا غنائيًا لينظم له ما كتبه. بليغ يتصل بمكتب مدير الإذاعة محمد محمود شعبان، ويجری إلى أحمد فؤاد حسن قائد الفرقة الماسية. وفى ظلام الليل وإجراءات الطوارئ العسكرية يجرى بسيارته إلى الإذاعة. إنه، حتى، لا ينتظر المصعد، إنه يأخذ السلالم قفزًا إلى استوديو ٤٦. هناك يجد فى انتظاره كل أفراد الفرقة الموسيقية جاهزين بآلاتهم، وقبل آلاتهم هم جاهزون بمشاعرهم. نسجل يا رجالة؟ تمام یا زکریا؟
أحيانًا نكون نحن فى الاستوديو المجاور مستمرين فى تسجيل حلقات «أرجوك.. لا تفهمنى بسرعة».. لكن كثيرًا ما يأتينا بليغ.. أو نذهب نحن إلى استوديو 46 واثقين مقدمًا من أننا سنجد بلیغ هناك.. ولو جالسًا بجوار مهندس الصوت زکریا عامر.. المراجعة شريط به آخر ما يسجله بليغ عن مصر.. ولمصر. فى النهاية، ومع انصراف بليغ معنا، يلاحقنا على السلالم موظف من إدارة العقود بالإذاعة: لحظة يا أستاذ بليغ.. أرجوك توقع لى على هذه الأوراق لنصرف لك الأجر المستحق عن آخر أغنية لحنتها.
فى الأغانى الوطنية كان المعتاد هو أن الأجر رمزی. لكنه بالنسبة لإدارة العقود اسمه أجر.. ولا بد من تسديد خانته على الورق. وبليغ، بصوت خفيض وخجل شديد، يرد على موظف العقود: أى أجر يا أخى؟ هذه الألحان بلا أجر. سجل فى أوراقك أنها هدية منى. هذا أقل واجب، وسأقوم بالمزيد. أنا اللى متشكر لك، وللإذاعة.
*
وأصبح طبيعيًا أن يكون لعبدالحليم حافظ نصيب فى هذا «المزيد». فى الواقع إن عبدالحليم، الذى كان قد يئس تمامًا من إقناع كمال الطويل بالعودة إلى التلحين له، فوجئ تمامًا بأن كمال هو نفسه الذى يقول له أمامى إنه الآن.. فى هذه اللحظة من حرب أكتوبر.. يحس برغبة عارمة فى أن يجلس إلى البيانو لکی يلحن و: «لكن أرجوك يا حليم.. اتركنى لنفسى قليلًا حتى أعثر على الكلمات التى أجد نفسی فيها». لحظتها طرنا جميعًا من الفرحة لأن القرار فى هذه المرة خارج مباشرة من قلب كمال الطويل.
وذات ليلة، مازلنا فى الحرب وشهر رمضان ويتبقى ساعتان أو ثلاث على موعد السحور، دق جرس التليفون بجانبى فى البيت: «أنا حليم.. أنا عرفت أن بليغ عندك.. قاعدين شوية؟ أنا فى الطريق».
بعد دقائق اتضحت المشكلة.
بليغ يقول لعبدالحليم: على فكرة.. أنا لم أقل لمحمود أى شىء حتى يكون انطباعه تلقائيًا.. أليس هذا اتفاقنا؟
- خير يا حليم.
- خیر طبعًا. الحكاية يا سيدى إن صاحبك ده ( وكأن عبدالحليم لم يكن هو صاحب بليغ من قبلی بسنوات طويلة طويلة) دماغه مزرجن. أنا عايز أقدم أغنية عن (أنور) السادات بمناسبة الحرب. لكن ده.. رأسه وألف سيف.
- رد بلیغ بكلمات ملؤها الحرارة والصدق: يا حليم أنا تحت أمرك.. قل لى ها نغنى لمصر.. للجيش.. للشارع.. للناس.. تحت أمرك. لكن نغنی لحاكم مهما علا شأنه؟ أبدًا.
الآن اتضحت المشكلة. وبلیغ شديد الصدق فى مشاعره. فى هذه اللحظة ليست هناك على الإطلاق أية مشاعر داخل بليغ ضد أى حاكم.. السادات أو غيره. لكن المشكلة الكبرى هى أن نكسة يونيو ١٩٦٧ إذا كانت قد علمتنا أى شىء، ففى المقدمة أن الهزيمة اسمها مصر، والنصر اسمه مصر. وهذه الحرب- حرب أكتوبر- هى حربنا جميعًا. ليست فقط حرب المقاتل فى سيناء. لكنها أيضًا حرب زوجته التى تحملت غيابه، وأخته التى استمرت تفخر به فى لحظة انكساره، وجيرانه الذين لم يفقدوا الأمل فيه وقت محنته.. وقريته التى أخذت من قوتها لتدفع ثمن سلاحه.


كان عبدالحليم يحاول المقاطعة، لكن تدفق مشاعر وأحاسيس وكلمات بليغ مستمر: يا حليم هذه حرب مؤجلة منذ ثلاث سنوات.. حرب خاضها نفس الجيش الذى قام بحرب الاستنزاف وبحماية نفس الحائط الصاروخى الذى كان جاهزًا منذ ثلاث سنوات.. هل نسميها إذن حرب جمال عبدالناصر؟ إننى أرفض ذلك أيضًا.. فنحن جميعًا تحملنا التضحيات من أجل هذه الحرب.. وشهداؤها خيط واحد متصل منذ معركة «رأس العش» وإغراق المدمرة إيلات.. ياحليم افهمنى.
حينما استدار عبدالحليم بعينيه نحوى قلت له: يا حليم.. سوف تجىء مناسبات كثيرة تالية يتسع فيها الوقت لهذا الذى تريده. لكن فى هذه اللحظة المحددة بليغ معه الحق. وإذا أردت للحن أن يصل إلى قلوب الناس.. أترك بليغ على راحته.. عندك كمال الطويل مثلًا. فى نشوة حماسة للعودة التلحين. كان المعنى الذى انفعل به هو «خللى السلاح صاحى».. والمعنى الآخر الذى لحنه لعفاف راضى هو «الباقى هو الشعب».. دع بليغ لإحساسه.
بعدها غنى عبدالحليم «عاش اللى قال» من ألحان بليغ حمدى وكلمات محمد حمزة.. حل وسط بين تلقائية ورومانسية بليغ.. ورغبات عبدالحليم حافظ.
*
ثم تمضى الأيام.. وتأتى احتفالات ذكرى حرب أكتوبر متجددة سنة بعد سنة. وفى كل مرة يخفق قلب مصر الشعبية من جديد مع مجموعة من الأغانى، فى مقدمتها دائمًا ما لحنه بليغ حمدى. لكن فى مقابل ذلك فإن مصر الرسمية لم تسمع أبدًا ببليغ حمدى. ألقاب وجوائز وتكريمات من مصر الرسمية لكل من يستحق ولا يستحق تحت عباءة ذكرى حرب أكتوبر. لكن: يا مصر الرسمية.. أين بليغ حمدى؟ نعم؟ بليغ مين؟ أنا ما أعرفوش، ولا شفتوش، ولا سمعتوش.. بتقول بليغ مين؟!
ربما كان هذا هو ما دفعنى- فى المرة الوحيدة التى كتبت فيها عن بليغ حمدى- إلى أن أصب مشاعرى فى عامود كتبته فى أخبار اليوم، بتاریخ ١٦/١٠/١٩٧٦ قلت فيه: «الأمومة ليست سلطة. إنها مسئولية، والأمومة ليست امتيازًا. إنها عبء. والأمومة ليست ضمانًا ضد الخطأ. وإنما هى قدرة على الرجوع إلى الصواب. والأمومة ليست واقعة مادية تؤدى بالضرورة إلى الحصول على الحب ثمنا ومكافأة. وإنما الأمومة هى أولًا إعطاء الحب.. حتى بغير مقابل.
«وفى علاقة مصر بأبنائها هناك مشاعر مؤكدة بالأمومة. إنها ليست مشاعر خيالية ورومانسية وعائمة تربطنا بمصر كأبناء لها.. لأن مصر هى فى حياة كل منا أم حقيقية موجودة دائمًا فى حياتنا اليومية.. وتترجم نفسها بعلاقات محددة تربطنا بهذا التراب، وهذا الشارع. وهؤلاء الجيران، وهذه الأسرة، وهذه الصحيفة، وهذه المدرسة.
فى هذه الحدود فإن مصر أيضًا ليست أبدًا فوق مستوى الخطأ، وبالتالى فهى ليست فوق مستوى المراجعة.


«ولقد وقع خطأ من مصر نحو واحد من أبنائها يوم الجمعة الماضى. فى الاحتفال الذى أصبح سنويًا بعيد الفن، فى هذه المرة كرمت مصر عددًا من أبنائها الذين ترجموا حبهم لمصر إلى فن.. فاستحقوا من مصر ما تلقوه من تكريم. وأكثر.
ولكن واحدًا سقط سهوا من القائمة. وهنا تبدأ المرارة. إنه لم يشك إلى أحد. ولم ينتظر شيئًا من أحد. ولا توقع مكافأة من متعهد. إنه أحب مصر لأنها أمه. ونحن نشكو مصر لحسابه، لأننا أبناؤها.
رن هذا الفنان الكبير الذى سقط سهوا، كان هو بالصدفة أكثر من ملأ مشاعرنا حماسًا وصدقًا فى حرب أكتوبر. إنها كانت حربه الشخصية جدًا، بمثل ما كانت نكسة ١٩٦٧ هزيمة شخصية لـ3٥ مليون مصری.
ولأنه وطنی، وفنان، وموسيقى، فإنه استخدم موسيقاه للتعبير عن وطنيته، فكانت النتيجة هى أحلى الأغانى الشعبية التى بقيت من حرب أكتوبر. أغانٍ استمعنا إليها بأصوات عبدالحليم ووردة والمجموعة و.. و...
وحينما يعبر الابن عن مشاعره نحو أمه فإنه لا ينتظر منها ثمنًا ولا مقابلًا ولا حتی مجرد تکریم. إنه يعبر لأنه يحس.. ويحس لأنه يحب.. ويحب لأن هذا هو انتماؤه، وقدره.


ولكن.. ماذا إذا كانت الأم نفسها قد بدأت فى تكريم أبنائها؟ ماذا إذا اختارت الأم واحدًا من أبنائها تكرمه دون الآخر؟
إن بليغ حمدى- الذى سقط سهوًا من تكريم فنانى أكتوبر- سوف يظل دائمًا ابنًا لمصر.. فنانًا فى حبها.. وعاشقًا فى إخلاصه لها.
«فقط.. كنا نتمنى أن نسمع من الأم كلمة حب لابنها الذى أحبها على بياض، فلم ينافسه فى حبها أحد».
كانت تلك هى كلماتى التى فوجئ بها بليغ منشورة كباقى القراء. وفى رد فعله كادت الدمعة تفر من عينيه كطفل صغير. نعم. يومها كاد يبكى.
لكنه أبدًا لم يتذمر أو يشكو. فى الواقع أنه استمر كعادته يغنى لمحبوبته التى عذبته أحيانًا ودللها كثيرًا وسكنته دائمًا. يغنى لمصر. حتی بعد عودته من غربته الاضطرارية، وقبل فترة وجيزة من رحيله الأخير. يتغنى بمصر بصوت شادية: «ادخلوها آمنين.. ادخلوها سالمين.. مصر بلد المخلصين.. مصر بلد المؤمنين».. إلخ. إن مصر بالنسبة لبليغ هى الناس البسطاء. كل الناس. إنهم كل جائزته، وهم أيضًا سر عذابه.
فيما بين «يا حبيبتى يا مصر»، «ومصر بلد المؤمنين»، كانت مياه كثيرة قد جرت فى نهر النيل. بليغ نفسه، بعد أن تنكر طويلًا وراء أسماء بعض المؤلفين، أصبح يكتب أغانيه بنفسه، وسواء بحكم الضرورة أو الاختيار، فقد سجل نفسه مؤلفًا غنائيًا باسم «ابن النيل».. والكتابة لم تكن بعيدة تمامًا عن متناول بليغ، فالذين يحبون القراءة يصبحون غالبًا محبين للكتابة. وذات مرة كنا عائدين معًا من الإسكندرية فى سيارة بليغ. وحينما سألنى عن السبب فى حرصى على التواجد فى القاهرة قبل السادسة مساء، شرحت له أن الرغبة تجددت لدىّ لزيارة الدكتور طه حسين، من تلك اللحظة، وحتى أوصلنى بليغ إلى فيلّا «رامتان»- بيت طه حسين بذلك الشارع المتفرع من شارع الهرم- تدفق حديث بليغ بلا انقطاع عن انبهاره منذ الصغر بأسلوب طه حسين. فهو يرى أن أسلوب طه حسين فيه من الموسيقى ما كان كفيلًا بجعله موسيقارًا كبيرًا لو لم يتجه إلى الأدب.

 

 

أحبته قبل رؤيته ووالدها طرده وتزوجها فى بيت نجوى فؤاد.. قصة زواج بليغ ووردة  - اليوم السابع