رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البابلز

إعلان «مو صلاح» الجديد عن أحد المركبات السكنية، والمشتهرة اجتماعيًا وإعلاميًا وإعلانيًا باسم «الكومباوند»، حيث الترويج لفكرة المركبات السكنية التي دومًا ما تكون مصحوبةً بعبارات مثل «عيش حياة الكومباوند»، وهي ثقافة جديدة أضيفت لحياتنا المعاصرة المعلبة المرهقة المكلفة وصار لدينا ثقافة تعرف باسم «ثقافة الكومباوند»، والتي بدأت بطبيعة الحال في مدن النفط الحديثة، ولم تكن هذه الفكرة موجودة أو مطروحة في المدن العريقة والتاريخية كمدينة القاهرة.

وإن أردنا حقًا التأريخ والتأصيل الدقيق لتلك الظاهرة فعلينا رصد ظاهرة المركبات التجارية أولًا، والمعروفة باسم «المولات»، والتي بدأت أيضًا في المدن الرأسمالية الحديثة وتقوم فكرتها على تجميع أكبر عدد ممكن من المحال التجارية وغيرها من المحال الخاصة ببيع الأطعمة والمشروبات بل ومختلف أنواع الترفيه للكبار والصغار، وتجميع كل ذلك في مركب واحد اختصارًا للوقت وتوفيرًا للنفقات وعدم التنقل بين الأماكن والمحال، وإيجاد مكان واحد يضم كل شيء، فوجد «المول»، وصار مكانا مكتظا بكل شيء، ولا يمكن أن يكون لك بارتياده هدف محدد، خصوصًا أن الإغراءات سوف تطاردك، فإن أردت مثلًا التسوق وكان هذا هو هدفك الأساسي فبمرور الوقت ستشعر بالجوع أو العطش وستذهب بعد مرحلة التسوق لكي تأكل أو تشرب شيئًا، ثم وبمرورك بين أروقة المركب التجاري ستجد حتمًا مكانا آخر يبيع الحلوى والمثلجات التي ربما لست في حاجة لها، وستزيد من وزنك وترهلك خصوصًا بعد أن أشبعت جوعك بوجبة تناولتها بالفعل، لكنك لن تقاوم المشهد وتجمع الناس حول المثلجات أو غيرها، وبالتالي ستنفق ما هو أكثر من ميزانيتك المحددة سلفًا قبل ارتيادك ذلك المكان، وستنفق المال على أشياء لم تكن تحتاجها أو تشتهيها قبل الدخول للمكان لكن بمجرد مرورك أمامها صرت تشتهيها وصارت ضرورية، وبالتالي أصبح المكان مكلفًا لك لا موفرًا للميزانية كما روج له من ابتكروه، وأنهم بإيجاده وفروا لك الوقت والجهد والمال بوضع كل شيء في مكان واحد.

فأنت تنفق في المركب التجاري أكثر مما تنفق إن تسوقت في المحال الموجودة في الشوارع المعتادة، ناهيك عن تجمع الكثيرين بأهداف ومآرب مختلفة في مكان واحد صار مزدحما وخانقا بفعل الانفجار السكاني في بلادنا وتكدس الجميع في المركبات، خصوصًا في عطلة نهاية الأسبوع وعطلات الصيف، واستنشاق الجميع هواء مكيفات الهواء وحرمانهم من المشي في الأماكن المفتوحة واستنشاق الهواء الطلق.

وأوجدت تلك المركبات التجارية، خاصة مع تعاظم كارثة الانفجار السكاني، ثقافة أخرى لصيقة بها، وهي ثقافة «الكومباوند»، وهي الفقاعة المستحدثة الجديدة التي أضيفت لحيواتنا، التي صارت بعد كل ما أضيف عليها من أشياء مستحدثة أشبه بالفقاعة الكبيرة التي انبثقت منها وعنها فقاعات أصغر على هيئة كومباوند تارة وحياة افتراضية نعيشها في العوالم الافتراضية بفعل التكنولوجيا والأجهزة المستحدثة والمحمولة تارة أخرى وكل ما جعلنا نعيش في فقاعات خارج الحياة الحقيقية، فصار لنا حياتين، حياة في الواقع وحياة في الافتراض..
وتتقاطع الحياتين معًا ويندمج البعض في الافتراض ويتمثلونه أكثر فيتغربون عن واقعهم وربما يكرهونه، ويدفع ذلك البعض للادعاءات والكذب والظهور بشخصية تخالف الحقيقة في الواقع، ويصير للمرء أصدقاء افتراضيون بل وحياة كاملة افتراضية تزيد أحيانًا من غربته واغترابه وأمراضه النفسية.

لذلك وددت الكتابة اليوم عن فكرة «البابلز» أو الفقاعات.. بعد أن أثار إعلان النجم المصري العالمي والفرعون الذي نفتخر به في كل المحافل جدلًا واسعًا بين مؤيد ومعجب ومندهش كاره لهذا الإعلان، وأضع أنا نفسي في المنتصف ما بين المعجب والمندهش.
فعِلم الإعلان كما درسناه وكما يدرس في كليات الإعلام في مختلف الجامعات والدول يعد علمًا كبيرًا وواسعًا له مواصفاته وشروطه ومحاذيره ومحرماته «كاستغلال الأطفال مثلًا» أو استغلال النساء وتسليعهن إلى آخر ذلك من الضوابط التي قلما للأسف يلتزم بها صانعو الإعلانات كما درسناها في الكتب.
وبالطبع هناك مواصفات الجودة ومدى المصداقية والارتقاء بالذوق العام وطزاجة الفكرة وجودة المنتج ومطابقته للشروط والمواصفات وكل ما يجب أن يكون في الإعلان الناجح، وقلما نجد للأسف إعلانًا تنطبق عليه تلك الضوابط وتلك المواصفات.

أما إعلان «مو صلاح» الأخير فلقد تجاوز كل ذلك لفكرة شديدة الغرابة وضعتني في حالة من الاندهاش التام والحيرة، وهذا لا يعني أية مصادرة على آراء الآخرين، وأعلم أن مستويات التلقي تختلف من شخص لآخر ولكنني أعبّر في هذه المساحة عن رأيي الشخصي وما وصلني وما تلقيته عندما شاهدت الإعلان الشهير لأول مرة، وانتابني شعور متناقض يجمع ما بين الانبهار والإعجاب بالفكرة من ناحية، ثم الصدمة والدهشة الكبيرة التي انتابتني مع نهاية الإعلان.
ففي البدء يهدم ويعادي ويصدر الإعلان رفضًا وكراهية ما لحياة الفقاعات التي صرنا نعيش فيها، لنفاجأ بأن العمل الإبداعي- فالإعلان نوع من الإبداع والفن- يروج للكومباوند الذي ما هو إلا فقاعة كبيرة! وبالتالي من قام بابتكار فكرة الإعلان- المبتكرة بالفعل- قد أضر من منظوري بالمنتج الذي يروج له وهو «الكومباوند» ضررًا بالغًا وجعلني أكره أكثر ذلك المنتج الذي لا أحبه من الأساس، وأسهم الإعلان في زيادة ذلك الشعور لدىّ بل وعمقه وأصّل له ولرفضي تلك الظاهرة، حيث ذكرتني ثقافة الفقاعة التي ضحدها الإعلان بالفقاعة الكبيرة وهي «الكومباوند» بل والفقاعة الأكبر التي نعيش فيها وهي الحياة ذاتها بشقيها الواقعي والافتراضي.

ففي الواقع يعزل المرء نفسه أحيانًا عن محيطه ويغترب وسط أقرانه لأنهم مختلفون عنه ولا يفهمونه ولا يفهمهم هو أيضًا جيدًا، وبعد أن صار التواصل مستحيلًا عزل هذا نفسه عن ذاك، وفي الافتراض أيضًا يعيش المرء حياة متخيلة موازية تفصله أكثر عن واقعه وتزيد من اغترابه وانفصاله عن الواقع وتجعله يعيش في كذبة وفقاعة كبيرة لينتهي به الأمر وبعد كل تلك الفقاعات التي تملكته وتمكنت منه ليعيش في فقاعة جديدة وهي «المركب السكني» الذي جُعل ليجد فيه الإنسان راحته، وهذا ما يعتقده البعض، فيتهافتون على ارتياد حياة الكومباوند والذي ما هو إلا فقاعة كبيرة تعزل ساكنيها عن الواقع.
فبمجرد الخروج من تلك المحمية «الفقاعة» يصطدم المرء بواقع مختلف عما يعيشه داخل الكومباوند وقد عزل نفسه عن الآخرين، وعزل الآخرين وأبعدهم إلى خارج محيطه الآمن!

وثقافة العزل تلك شاهدناها جميعًا منذ قديم الأزل مع انتشار الأوبئة والجائحات التي انتابت البشرية منذ عهد الطاعون والكوليرا مرورًا بالكورونا، والآن نترقب بخوف المزيد من الأوبئة فنسمع تارة عن «إنفلونزا الطماطم» و«جدري القرود» وربما نلجأ مرة أخرى لعزل أنفسنا عن الآخرين تجنبًا للعدوى، فهل ساكنو «الكومباوند» مرضى يجب عزلهم عمن حولهم؟ أم أن من هم خارج «الكومباوند» هم المرضى الذين يجب عزلهم ومنعهم من دخول الكومباوند وارتياده لأنهم يمثلون خطرًا حقيقيًا على سكانه؟

والمحصلة هي عزل كل طرف نفسه عن الآخر، فمن هم داخل «الكومباوند» معزولون في فقاعة ومن هم خارجه أيضًا معزولون في فقاعة، وهكذا نكون قد بنينا لأنفسنا أسوارًا جديدة تفصلنا عن بعضنا البعض ظنًا منا أنها تحمينا.
تمامًا كما شق سور «برلين» المدينة لنصفين، ثم هدم بعد سنين في احتفال تاريخي مهيب، ليندمج سكان الغرب مع الشرق، وكما فرقت الحرب الأهلية في لبنان سكان بيروت الغربية عن الشرقية، وها نحن نعيد الآن ذات السور مرة أخرى وكأننا في حالة حرب! بل ونضيف كل يوم سورا جديدا لأسوارنا كي تفصلنا أكثر عن بعضنا البعض وتغربنا أكثر عن بعضنا البعض.

فالكومباوند يا سادة فقاعة تعزل سكانها كما كنا نعزل مرضانا في مستعمرات للجذام والعكس.. أي حماية هؤلاء المعزولين في الداخل من المرضى أو الوحوش الذين يتربصون بهم في الخارج، وكثيرًا ما سمعنا عن جرائم ارتكبت داخل تلك الأسوار رغم كل مواصفات الحماية والعزل وتسخير التكنولوجيا لإنجاح ذلك.. فتلك المركبات السكنية تم اختراقها من أناس أرادوا اختراق أسوارها وتفجير الفقاعة والانتقام من سكان الكومباوند.. إنه العزل والسور والحاجز الكبير الذي يفصلنا عن الآخر وكأننا محتلون من غزاة عزلونا كما تعزل غزة والأراضي المحتلة.

"حاجز يفصلنا عن الآخر ويفصل الآخر عنا"، وتلك هي ثقافة الفقاعة التي جُعلت لتدمير فكرة الاندماج والانصهار مع الآخر في بوتقة إنسانية واحدة، وبراح واتساع روحي ومكاني، وصار «الكومباوند» ترسيخًا لفكرة العزلة والضيق، والذي يتهافت عليه المتهافتون ويضعون فيه الملايين والمليارات ليعزلوا وكأنهم في مستعمرة جذام أو أي نوع آخر من أنواع الأمراض المعدية.