رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فانوس رمضان.. حكايات من الزمن الجميل

 

مسكت الفانوس اللى كان منفوخ ولونه أخضر زى بطيخة صغيرة، وفضلت منوراه لحد البطاريات ما خلصت، ومارضتش أفرجه للعيال فى الشارع وكنت خايفة عليه.

أصحابى، ولاد جيرانا السودانيين اللى ساكنين فى بيت عم «على الأحمر» بلدياتنا، اتلموا حواليا وكانوا عايزين يتفرجوا على الفانوس ويلعبوا بيه، وأنا عيطت ومارضتش أفرجهم عليه وناديت «ستى» اللى كرشتهم وغيرتلى البطارية.

فضلت قاعدة على عتبة باب البيت ألعب لوحدى وأنا مبهورة بالنور اللى بيضوى كل ما بحرك المفتاح اللى متثبت فى قاعدة الفانوس وماكنتش بضحك.

بعد شوية صحباتى مشيوا وأنا فضلت مع الفانوس بطفى وولّع وماكنتش بضحك، ورجع الولاد أصحابى السودانيين ومسكونى ضربونى وخدوا الفانوس وجريوا على بيتهم وأنا صرخت: «عايزة فانوسى»، خدتنى ستى فى إيدها وروحنا بيت عم الأحمر والعيال أصحابى خبوا الفانوس، وأنا كنت على صرخة واحدة: «عايزة فانوسى المنفوخ اللى بينور لوحده».

عيال السودانيين مارضيوش يدونا الفانوس، وأعمامى كانوا وصلوا ووقفوا محاصرين بيت عم الأحمر، واتلموا الصعايدة قرايبنا بالشوم، وبدأت مفاوضات وكان لازم الفانوس يرجع، والموضوع اتحول لهدف جماعى يمس كرامة السوهاجية كلهم.

وفضلنا لحد أدان الفجر وكل السويس واقفة على رجل لما خطة الهجوم اتطورت بأخد عمر صاحبى عندنا فى البيت والتفاوض بتسليم الفانوس، وبدأت الخطط تتطور أكتر عشان دخول البيت اللى السودانيين اتحصنوا فيه ووقفوا فى البلكونات ومعاهم الطوب وغطيان الحِلل بيخبطوا بيها بصوت عالى أوى، وأنا وعمر طلعنا فوق سطوح بيتنا نتفرج وناكل بسبوسة.

وصل الكبار وقعدوا يتفاوضوا، وعلى الضهر سلم السودانيين الفانوس، وجات خالتى سالمة أم عمر عشان تاخده من حضن ستى اللى كانت ماسكة الفانوس وبتغنى معانا أنا وعمر «وحوى يا وحوى» واحنا بنسرسع وراها، وبعد المغرب نزلت ألعب مع صحابى بالفانوس الإزاز الأخضر أبو بطاريات اللى اشترهالى خالى من مصر، وكان أول فانوس ببطاريات يدخل السويس وعمرى ما يزدش عن تلات سنين.

رجع أبويا من بره ومعاه السحور، زبادى وقشطة وجبنة بيضا وعيش فينو سخن ومقرمش من الأطراف، عمرى كان أربع سنين تقريبًا، ورمضان كان فى الشتا والمطر بيخبط فى الشبابيك وكلنا بردانين ومنكمشين تحت اللحاف.

أبويا جاب السلطانيات الفخار البنى اللى مليانة بالقشطة والزبادى وحطها على السرير اللى اتجمعنا كلنا عليه، وأمى ولعت بابور الجاز وحطته على الطقطوقة الصغيرة اللى جنب السرير عشان نتدفى، وقعدنا ناكل أنا واخواتى الاتنين واحنا نص نايمين وعينيا تقريبًا مغمضة، وأبويا بيحكى بصوته الطيب عن الرؤية اللى بانت وذاعوها فى الراديو، وإن ربنا يعود علينا الأيام بخير، ويفضل خير ربنا ولطفه محاوطنا، خرجت أمى بصينية الأكل ورجعت معاها الصينية النحاس الكبيرة وعليها كوبايتين شاى وتلات فوانيس بشموع قايدة، واحنا نطينا زى القرود من تحت اللحاف عشان كل واحدة فينا تلحق تاخد الفانوس بالألوان اللى بتحبها، وفى ليلة الرؤية دايمًا كل واحدة فينا كانت بتقعد جنب فانوسها لحد ما الشموع تخلص، وفى الليلة دى نمنا والشموع فضلت قايدة تحرس أحلامنا. 

صحينا بدرى فطرنا ببقية القشطة والفول المدمس والطعمية السخنة من مطعم عم عبدالله والعيش الشمسى اللى ستى خبزته، وبدأت أمى تحضّر فطار المغرب، واحنا أخدنا الفوانيس نتدفى بوهج شموعها، وروحنا عند الجامع الوحيد فى الحى بتاعنا، اتجمعنا إحنا وأصحابنا عيال بيت الأحمر السودانيين والإسكندرانية مع كل عيال الحى الكبار والصغيرين اللى فى عمرنا، وروحنا نستنى مدفع الإفطار من راديو دكان عم زخارى.

ونسمع أدان المغرب من عم عبدالمولى اللى كان بيأدن على باب الجامع واحنا بنهلل حواليه، وبعدين نجرى على بيوتنا وناكل الكنافة والقطايف السخنة ونخرج بعدها بالفوانيس المنورة نخبط على البيوت واحنا بنغنى «إدونا العادة.. حتة وزيادة..»، ونفضل كل يوم نخرج بعد الفطار نلف على بيوت الحى ناخد من البيت ده فُندام ومن التانى بسبوسة ومن التالت ترمس بيتى أو ملبس وعسلية وسكر جلاب.

وكتير أوى كان عم يوسف البقال يدى كل عيل وعيلة مننا تعريفة وأحيانًا قرش صاغ بحاله، فنفرح ونشترى بالفلوس من عنده برضه لبان ومصاصة وحلاوة حمص ملونة، كنا بناخد اللى لمناه ونقعد على عتبة باب بيتنا ناكل ونغنى ولا حد فينا كان بيحس بالبرد ولا بالمطر اللى طفى الفوانيس.

كانت الطيارات بتلف طول النهار فوق روسنا بترمى قنابل فتتناثر الشظايا على سطوح بيوتنا، فطفت ستى الفرن زى ما رجالة الدفاع المدنى اللى كانوا بيمروا على البيوت قالوا وماكملتش خبيز، واحنا استخبينا تحت السرير أبوعمدان وكنا جعانين، كل البيوت لونت الشبابيك بالأزرق، وحطينا على عتبات البيوت أكياس الرمل، ومبقاش فيه مكان لينا نقعد، وكمان مابقيناش نخرج الشارع نلعب مع بعض، وعم يوسف مبقاش عنده فُندام.

وعم زخارى قفل الراديو، وكل الناس اللى فى الحى متجمعين وقت الفطار بياكلوا مع بعض ويتكلموا بصوت واطى، وبناكل احنا العيال اللى فضلنا فى السويس خلال حرب الاستنزاف مع بعض واحنا ساكتين، اتجمعنا فى مدخل بيتنا نلعب مع بعض، جمعنا الفوانيس بتاعت السنين القديمة، كانت كلها شبه بعض، مفيهاش إزازة وأبوابها متخلّعة، وكمان ماكنش فيه شمع معانا، أخدته أمهاتنا عشان كانوا بينوروا بيه بالليل لأن النور كان دايمًا قاطع. 

كنا كل يوم فى رمضان- إحنا العيال اللى ياما جرينا وضحكنا وغنينا وضربنا بعض وفرحنا- نقعد نرسم بأقلام الكوبيا والرصاص على الورق القديم فوانيس من غير ألوان ونرسم شموع كلها شبه بعض، ونغنى بصوت واطى: «حاللو يا حاللو.. رمضان كريم يا حاللو.. حِل الكيس وادينا بقشيش.. لا نروح ما نجيش يا حاللو، إدونا العادة.. الله يخليكوا.. حتة وزيادة.. الله يخليكوا.. الفانوس طقطق.. الله يخليكوا.. والعيال ناموا.. الله يخليكوا.. ناموا ما ناموا.. الله يخليكوا.. بعدها صاموا.. الله يخليكوا.. إدونا العادة الله يخليكوا».