رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدراما الرمضانية.. والاحتفالات الوطنية

[email protected]
مناسبة بداية معايشتنا لموسم جديد لدراما رمضان (وكل عام وقراء الدستور بخير وبركة) والتي أتوقع لها أن تمثل محطة جديدة للتطوير بعد النجاح النسبي الذي لاقته الدراما الرمضانية (وبشكل خاص الدراما السياسية والوطنية) في الأعوام الأخيرة، والتى بشرتنا بتطور طيب فى خياراتها الاجتماعية والوطنية والإنسانية، فقط نطلب من الله أن يمن علينا باختفاء الدراما الكوميدية حتى يغادر صناعها ثقل الظل ونكات الزغزغة غير الذكية، ويعود إليها صناعها المحترفون أصحاب التفهم الحقيقي لدور ورسالة ومضمون الدراما الكوميدية وسبل بنيانها الاحترافي.. وكمان والأهم أن يتم تعافينا من برامج "المقالب" الرذيلة.
"قبل أن تهاجموا الخيال المكتوب على الورق حاولوا أولًا تغيير الواقع "مقولة لأديب نوبل نجيب محفوظ في مناسبة الرد على منتقدي واحدة من رواياته، وأعتقد يحق لنا القول الآن أننا بالفعل نستطيع تغيير الدراما وتغيير الواقع معًا، وهو ما نراه يتحقق بالفعل مؤخرًا وبحماس ودأب وبإيقاع متسارع عبر تصويب الخطاب الثقافي والديني والعلمي والاجتماعي وعاودنا تقديم دراما تجديد الدماء الوطنية في العروق ودفع الأكسجين المجدد للهواء المحيط الداعم للولاء والانتماء وتنمية الوعي الوطني والسياسي.
ومعلوم حالة التفاعل والتشابك بين السياسة والفنون بشكل عام والدراما بشكل خاص وقد تشكلت أسس تلك العلاقة بين الفن والسياسة منذ زمن طويل، فمنذ أيام أفلاطون كانت جذورها، ومع مرور الزمن أصبح الفن تابعًا للكنيسة التي سيطرت على أوروبا واستخدمته في إيصال رسالتها الدينية، لكن الانقلاب في العلاقة بين الفن والسياسة بدأ مع اندلاع الثورة الفرنسية، حيث أصبح الفن يجسد روح الثورة الجديدة بدلًا من أن يكون مجرد آلية وأداة لملوك ذلك الزمان.
ويذكرنا الكاتب والباحث د. يسرى عبدالله بالكتاب الهام "التليفزيون وآليات التلاعب بالعقول" الذي يشير فيه "بيير بورديو" عالم الاجتماع الفرنسي الشهير إلى الدور المفصلي الذي تلعبه الشاشات في مداعبة أمزجة الجمهور، بل ومحاولة تغييرها أيضًا، تعددت فيما بعد الوسائط التقنية للتواصل مع الجماهير، وتشابكت، وصار التليفزيون موضوعًا للعرض ضمن وسائط أخرى أكثر حداثة مثل عوالم السوشيال ميديا، صار كل شىء مركبًا وإن كنا ساعتها لم ندرك بعد زخم التحول التكنولوجي الجديد الذي يجتاح العالم، في محاولة للهيمنة على العقل والوجدان العام، وفى ظل عالم يتسم بالسيولة اللانهائية، تجاورت الأشياء، وصار الجميع يعرض بضاعته، واستثمرت العوالم التكنولوجية الجديدة في شن حروب من نوع آخر، فكرية الطابع، ناعمة المحتوى، تلعب على المشاعر العامة للجماهير، تؤجج العاطفة وتلغى العقل إلا قليلاً.
وفي الآونة الأخيرة تمكنا من صياغة تطوير مهم في مسارات الإرسال للدراما، التى بدأت تستعيد عافيتها من جديد، وتتجه في هذا المنحى صوب غايات أكثر نفاذًا إلى سيكولوجية المشاهد وعقله، وربما لأن سنوات عديدة فاتت قد سكن فيها كل شىء، وصار بمعزل عن حركة الحياة في التغيير المستمر، والاعتقاد بأن الأصل هو التجدد وليس الجمود.
ويذكرنا الكاتب الرائع "محمود العمري" بدراسة للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، أكدت على أن أهم ما يميز الدراما الوطنية في سنوات ما بعد ثورة يونيو 2013، هو عدم المبالغة والتوازن ما بين الشق الوثائقي والشق الدرامي، فلا يجوز من الناحية الفنية أن يتحول المسلسل إلى مشاهد وثائقية بحتة وإلا انتقل من خانة المسلسل الدرامي إلى المسلسل الوثائقي.
لقد أسهم بعض الوسائط الإعلامية وبعض مواد الدراما السلبية بكل أشكالها ونوعياتها  في تشكيل ما أطلق عليه الرئيس السيسي في المؤتمر الوطني للشباب الثالث بالإسماعيلية أبريل 2017 وعيا زائفا شاركت فيه أنظمة سابقة لم تكلف خاطرها شرح الموقف للشعب المصري، ومتآمرون استغلوا الفراغ وغياب النظام في ممارسة دوره وشغلوا الوعي المصري بالزيف والدونية والمظلومية والاستحقاق على حساب الواقع".
ويبقى السؤال: لماذا لا يتم دعم فكرة تقديم سير نجوم العمل السياسي الحزبي والبرلماني والاجتماعي عبر حقب التاريخ الحديث ولا أقصد الزعامات فقط، ولكن أصحاب المواقف التي صنعت تغييرًا في مسار العمل الوطني والسياسي والاقتصادي والعسكري؟ إن تقديم سير هؤلاء بكتابة محايدة واعية لواقع المراحل التاريخية التي عاشوها وبدون عقد أيديولوجية أو استخدام صياغات حنجورية مبالغة من شأنها إثراء وعي أجيالنا الطالعة بل وقد تصحح مفاهيم مغلوطة يتم تداولها على أنها حقائق مؤكدة.
وفي هذه الأجواء الرمضانية التي باتت داعمة لأهل الإبداع الدرامي لايمكن ألا نذكر أحد أهم مؤسسي الدراما التليفزيونية المصرية والذي تجاوزت أهداف الكتابة الدرامية عنده كل أشكال الحكي التقليدية الاجترارية المباشرة حتى لو ذهبت بعض المشاهد "العكاشية" عند التعامل المباشر مع قضايا المجتمع لإحداث مثل تلك التفاعلات المنطقية، فإن التناول والصياغة والرؤية معنية بمخاطبة الوجدان المُنهك إنسانيًا وملامسة المشاعر المُلتهبة عاطفيًا وإثارة العقول الجائعة معرفيًا للقراءة الواعية للأحداث.
وعبر معظم إبداعات "عكاشة" الدرامية كان التسابق والسعي من قبل فرق العمل الدرامية هائلًا للانتساب إليها، فالفائز بأى دور في أعماله الرائعة سينعم بأداء مبارزات إبداعية تمنحه صك النجاح في التواصل مع المتلقي بما تطرحه من قضايا إنسانية واجتماعية وفلسفية، في تناول خاص جدًا لقضايا الصراع الطبقي، والبحث عن العدالة الاجتماعية، والبطولات الشعبية الفطرية والإنسانية وغيرها من مشاهد دراما الواقع الإنساني بأروع التفاصيل. 
وقد أسعدني أن تتاح لي الفرصة لمحاورة "عكاشة" قبل رحيله بشهور قليلة، وبسؤاله: كيف نقرأ الماضى؟ كان رده: إنه سؤال هام وهنا لابد أن نسأل بأى ذهنية نقرأ؟ هل هي ذهنية الدروشة أم الاتباع الأعمى؟ في كل الأحوال لابد أن تكون القراءة نقدية في مجال إعادة فتح ملفات التاريخ ولنضرب المثل بكتاب الدكتور طه حسين للشعر العربى "الشعر الجاهلي" الذى وضع الأساس لمنهج نقدي وهو المنهج الذي ينبغي أن نقرأ به تاريخنا الاقتصادي والاجتماعي.. لا يجب أن نقرأ للترنح والتخبط بل القراءة لكي نناقش وهذا هو المنطق المطلوب، وعند قدرتنا على هذا سيمكننا تجاوز وعبور كل مناطق التخلف.