رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمهات الأنبياء «3».. السيدة مريم العذراء

السيدة مريم العذراء
السيدة مريم العذراء

نشأت مريم ابنة عمران في بيت تقي لأب من كبار علماء بني إسرائيل، فلما حملت بها أمها «حنة» وقفت تناجي ربها في صفاء وطهر، ونذرت لله أن تهب ما في بطنها لخدمة بيت المقدس.

علم الله إخلاص «حنة» امرأة عمران فتقبلها ربها قبولًا حسنًا وكفلها زكريا، ذلك أن أباها «عمران» مات وهي صغيرة فاختلف القوم فيمن يكفلها وألقوا على ذلك قرعة فكفلها زكريا زوج خالتها، وهذا يعني أن مريم كانت تحت التربية الربانية منذ بدايتها الأولى وهي في بطن أمها.

يقول الله عز وجل: «إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم، فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى، وإني سميتها مريم، وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم – فتقبلها ربها بقبول حسن، وأنبتها نباتًا حسنًا وكفلها زكريا».

عندما وضعت «حنة» ابنتها مريم، تمنت من الله أن تكون هذه الأنثى طائعة فسمتها «مريم» لأن كلمة مريم عندهم معناها «العابدة» وعرفت الأم بخبرتها أن المعاصي كلها تأتي من الشيطان، فقالت: «وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم».

أمضت مريم صباها في محرابها تتعبد لله، وفاء بنذر أمها، ولما كان سيدنا زكريا كافلًا لمريم وهو الذي يرعي شئونها لاحظ أنه كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقًا، فسألها زكريا «يا مريم أنى لك هذا» وهذا دليل على أن زكريا كان يغلق الأبواب على مريم، فلو كانت الأبواب مفتوحة لما سأل، وأجابت مريم بقولها كما جاء في القرآن «هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب».

هنالك دعا زكريا ربه «رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء» وزكريا عزت لديه الأسباب فهو يريد ولدًا لكنه كبير وزوجته عاقرًا، فذهب إلى ربه ودعاه في المحراب فنادته الملائكة وهو قائم يصلى لم تنتظر حتى يفرغ من صلاته.

وكأن الله يمهد لها بالرزق لأنها ستتعرض لشيء متعلق بشرف المرأة فلابد أن تعلم مسبقًا أن الله يرزق من يشاء بغير حساب وبدون أسباب فإن جاءت بولد بدون ذكر مَن أبوه فلتعلم أن الله يرزق من يشاء بغير حساب.

اختار الله مريم العذراء من دون النساء جميعًا ليودعها سره الأكبر، فبعث الله إليها من يبشرها بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين، يقول تعالى «وإذ قالت الملائكة يا مريم، إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين».

فما كادت مريم تسمع البشرى حتى ارتاعت ثم رفعت وجهها إلى السماء وقالت: “أنَّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيّا”، قال: "كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا".

واستسلمت مريم لأمر الله وقدرها المحتوم، حتى أحست بالجنين يتقلب في أحشائها، وياله من إحساس رهيب تعانيه عذراء طاهرة! هنالك أشفقت من الفضيحة والعار، فانتبذت بحملها مكانًا قصيًا، فلما جاءها المخاض اتكأت إلى جذع نخلة هناك ووضعت وليدها وهي تقول " ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسياً".

ثم كان ما لابد أن يكون أتت السيدة مريم بوليدها إلى قومها تحمله «قالوا: يا مريم لقد جئت شيئًا فريًا، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا».

ولم يشفع للسيدة مريم عفتها وطهرها، وما رأوه من آيات بينات على ولدها الصغير فتلقت اللعنات صابرة راضية بما هو أقسى من الموت في سبيل ولدها، ثم فرت إلى مصر لكي تنجو من الكيد والأذى، حيث أقامت هناك أثنى عشر عامًا ترعاه وتكدح لتهيئ له أسباب العيش ووسائل التعلم فكانت تغزل الكتان وتلتقط السنبل في أثر الحصادين، وجاءت به إلى الكتاب وأقعدته بين يدي المؤدب حتى أذن لها فعادت به إلى أورشليم ليسجد هناك حسب شريعة الرب المكتوبة في كتاب موسى.

وسكنا في قرية الناصرة، حيث عاشت له إلى أن بلغ مبلغ الرجال، وقد سجل "إنجيل برنابا" ذلك الموقف الخالد فذكر في الفصل العاشر أنه لما بلغ يسوع ثلاثين سنة من العمر، صعد إلى جبل الزيتون مع أمه ليجني زيتونًا، وهنالك تجلت له الرؤيا وعلم أنه نبي مرسل إلى بني إسرائيل، فكاشف أمه مريم بكل ذلك فلما سمعت مريم هذا أجابت يا بني «إني نبئت بكل ذلك قبل أن تولد، فليتمجد اسم الله القدوس».

ومن ذلك اليوم انصرف يسوع عن أمه ليمارس وظيفته الدينية بعد أن صحبته مدى ثلاثين عامًا هيأته خلالها للدور العًظيم الذي ينتظره.

انصرف عنها، ولكنهما خلدا معا على الأيام.. آية من آيات الله «جعلنا ابن مريم وأمه آية.. وجعلناها وابنها آية للعالمين».