رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد الصغير يكتب: تساؤلات مشروعة حول تاريخ الصحافة التكفيرية فى مصر!

جريدة الدستور

فى عام 1987م وحين كنت فى نهاية المرحلة الإعدادية، مصادفة قدرية ألقت أمام عينى بغلاف مجلة (الاعتصام) عند أحد بائعى الصحف. كانت تتصدر غلافها صورة كبيرة لمجلس قيادة ثورة 1952م وكتب فوقها (الطواغيت الذين حكموا مصر)! اقتنيتُ المجلة التى ازدحمت صفحاتها بمقالات غزيرة تصب جميعها فى إطار الفكر التكفيرى الصريح. وبها قرأت لأول مرة موضوعا بعنوان (الشهيد سليمان خاطر) وموضوعات أخرى فى ذات السياق.

من مجلة الاعتصام إلى كتيب كان يصدر شهريا بعنوان (المختار الإسلامى) بدأت رحلتى المعلوماتية فى التعرف على هذا الفكر التكفيرى. كان المختار الإسلامى أكثر حدة وتصريحا بالتكفير وأكثر عنفا واستباحة صريحة للدماء. كان أبرز كتابه محمد عباس ومحمد مورو اللذين يسبق اسم كل منهما لقب دكتور!

ثم كان اللقاء مع جريدة (الشعب) التى كانت تصدر أولا مرة أسبوعيا ثم أصبحت تصدر مرتين أسبوعيا. وكانت من المفترض أنها لسان حال حزب العمل اليسارى، لكنها بعد الزواج السياسى بين الحزب وجماعة الإخوان أصبحت الجريدة هى لسان حال الجماعة. وقد جمعنى لقاء عابر مقتضب بالمهندس إبراهيم شكرى رئيس الحزب بمعبد كوم امبو نهايات عام 97 أو بدايات 98م. فقد كان بعد مذبحة معبد حتشبسوت وبعد توقف السياحة الخارجية وانطلاق دعوة السياحة الداخلية للصعيد. كان حديثا عابرا بعد أن بادرت بتحيته واستوقفته وداعبته قائلا هو حضرتك يا دكتور ليك فى الآثار أصل جرنانكم بيقول غير كدا!

وكان أبرز كتاب المقال بجريدة الشعب د.محمد عباس الذى تميز أسلوبه بالقدرة الشديدة على التأثير الشعورى بإلهاب المشاعر الدينية للعامة. احتفت الجريدة به وجعلته نجمها البراق وخطيبها المفوه الذى تمنحه الصفحة الأخيرة من كل عدد. للكاتب أيضا بعض الكتب مثل (بغداد عروس عروبتكم) و(مباحث أمن الوطن) و(إعلانات مبوبة) وهو كتاب ساخر يعرض فيه الكاتب مصر للإيجار أو البيع، وكتاب (من مواطن مصرى إلى الرئيس مبارك) الذى كان تجميعا لمجموعة مقالات بالجريدة بنفس العنوان.

ومن المواقف الساخرة أن الكاتب الذى احتفت به الجريدة كان هو السبب فى استفاقة عارضة للدولة ووقف إصدار الجريدة بعد مقاله الدموى (من يبايعنى على الموت)، الذى كتبه محرضا ضد الدولة المصرية بعد نشر وزارة الثقافة رواية (وليمة لأعشاب البحر). فبعد مقاله نشبت مظاهرات عنف وشغب لطلاب الأزهر وحدثت اشتباكات مع قوات الأمن. (ملاحظة: أصدرت مشيخة الأزهر قبل تفجر الأحداث بيانا رسميا استنكارا لإصدار الرواية!).

فى مرحلة لاحقة من نهاية تسعينيات القرن الماضى وبداية القرن الحالى، ظهرت مجموعة من الصحف المستقلة التى أفردت بعض صفحاتها لمطاريد ما يسمى بكتاب جماعات الإسلام السياسى وهو الاسم الناعم للتيار الدينى المتطرف والتكفيرى والذى جاهرت بعض فصائله بحمل السلاح فى مصر آنذاك.
هذا عن المطبوعات المخصصة بشكل كامل ومعلن وصريح للفكر التكفيرى، بخلاف المقالات المتناثرة هنا وهناك حتى فى بعض الصحف الحكومية مثل جريدة (صوت الأزهر) التى كنت أحرص على مطالعتها فترة طويلة حتى تكونت لدى صورة عامة عن الفكر الذى تتبناه الجريدة فى نفس تلك العقود.

كان لوجود هذه المطبوعات الصحفية المروجة للفكر التكفيرى وبشكل قانونى فى مصر فى العقود الثلاثة التى سبقت أحداث يناير أثره الكبير فى المساهمة فى خلق (الظهير الشعبى) المساند للتطرف الدينى والإرهاب المسلح وبالطبع بجانب ما قام به رجال الدين فى المساجد.
ولا يدرك مدى عِظم هذا الأثر إلا من عايش الأوساط الطلابية فى جامعات مصر خاصة الجامعات الإقليمية. فقد كان يتم تداول بعض تلك المطبوعات وكأنها أيقونات مقدسة أو أيقونات ثورية لوطن تحت الإحتلال! وهؤلاء الطلاب هم الذين أصبحوا أرباب عائلات يصوغون بشكل ما عقول صغارهم فى الفترة الحالية. وهؤلاء هم الذين ظهرت ضخامة أعدادهم وقوة تأثيرهم فى انتخابات 2012م.

إن هذه الظاهرة بالغة الخطورة قد تزامنت مع العقود الأكثر دموية فى خروج الجماعات الدينية وميليشياتها المسلحة ضد الدولة المصرية. وقد اتخذ ذلك الخروج وتلك المواجهة عدة صور منها جرائم اغتيال أو محاولة اغتيال بعض الشخصيات العامة والفكرية والسياسية (فرج فودة – رفعت المحجوب – نجيب محفوظ – عاطف صدقى وغيرهم)، ومنها أيضا استهداف رجال الشرطة المصرية فى الشوارع وفى أماكن عملهم ومحال إقامتهم وفقد مصر لعدد كبير بين شهيد ومصاب، ومنها أيضا عمليات التفجير العشوائية التى راح ضحيتها شهداء مصريون تصادف مرورهم أو تواجدهم فى مسارح الجرائم مثل الطفلة شيماء، وأخيرا كان أحد مظاهر تلك المواجهة استهداف الاقتصاد المصرى باستهداف أحد أهم موارد العملة الصعبة وهى السياحة.

لذلك فحين نضع جنبا إلى جنب تلك المشاهد الدموية مع حقيقة السماح بتلك المطبوعات التكفيرية الصريحة، لا يملك المرء إلا أن يفغر فاهه دهشة لتلك الدولة التى سمحت عبر بعض إداراتها، واستهجانا لموقفها ذلك. وتقفز للذهن حتما عدة تساؤلات منطقية ومشروعة. أول تلك التساؤلات عن موقف تلك الأجهزة المنوط بها قانونا السماح أو عدم السماح بإصدار المطبوعات. فهل كان عقل تلك الأجهزة غير قادر على استيعاب المشهد أم كان كان مستوعبا لكن آلياته على الأرض عجزت عن المواجهة والتصدى؟! أى هل كان ذلك جهلا أم عجزا..أم تواطؤاَ؟

التساؤل الثانى عن موقف بعض هؤلاء السياسيين الذين كونوا أحزابا سياسية وحصلوا على تصاريح إصدار صحف حزبية، ثم فتحوا بعض صفحاتها على مصراعيها لمطاريد كتاب الفكر التكفيرى. فهل كان ذلك حسب اتفاقات مشبوهة خانت الأمانة وباعت دماء شهدائنا بثمنٍ بخس؟ أم أنهم كانوا أجهل من أن يتصدروا المشهد السياسى وكانت عقولهم أتفه من أن تحيط فكرا بحقيقة من فتحوا صفحات صحفهم لهم؟!

التساؤل الثالث يخص بعض الصحفيين الذين بلغت شهرتهم الذروة فى سنوات ما قبل يناير، والذين تمكن بعضهم من إدخال بعض الصحف المستقلة الصادرة من الخارج إلى مصر. لقد كنت أتابع جميع تلك الإصدارات وأحرص على اقتنائها لمحاولة فهم ما يجرى. ويمكننى القول الآن وبعد ما وقع فى مصر من أحداث جسام، إن حصر ما قام به هؤلاء الصحفيون فى إطار العمل الصحفى هو سذاجة بالغة. فما هو الدور السياسى الذى قام به هؤلاء فى سنوات ما قبل يناير؟ وهل كان دورا وطنيا حقا، أم كان دورا مشبوها ونفعيا محضا؟ ومع من اتفقوا وعلامَ كانت الاتفاقات؟ وما كان ثمن المساندة حتى صدرت تلك الصحف؟!

أنا شخصيا كنت أتابع الصحافة والصحف المطبوعة منذ سنوات الصغر، وتكونت لدى صور عامة عن بعض متصدرى المشهد حاليا من كبار الصحفيين الذين أصبحوا أيضا إعلاميين، وأكاد أجزم أن ما وصل إليه بعضهم لم تكن خلفه عبقرية مجردة أو نبوغا فريدا، فقد اختلطت الأدوار بين الصحافة والسياسة والبيزنس! لكننى لا أملك إجابات موثقة عن التساؤلات السابقة سواء فيما يخصهم أو يخص الآخرين ممن ذكرتهم بوصفهم فى المقال، فتلك الإجابات لا توجد إلا فى رءوس أصحابها..أو فى ملفات ما فى أحد المكاتب فى مكانٍ ما! وكل ما نصبوا إليه يوما ما هو أن تعلن الحقيقة كاملة احتراما لمن أريقت دماؤهم لكنى يحفظوا لنا وطنا!