رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لهذه الأسباب رفض المفكر خالد محمد خالد الحكم الدينى وفكرة الخلافة

جريدة الدستور

يعد الصراع بين العلمانيين والإسلاميين في صلبه هو صراع بين تيار علماني يرى أن الدولة ينبغي أن تكون دولة مدنية، وأن تكون إدارة شئونها  تخضع لتطور حركة الاجتماع ومصالح الناس ومنافعهم العامة، وإدارة شئون الدولة تؤسس علي العلم والعقل، وإن دور الدين في حركة المجتمع ينبغي أن يكون مقتصرًا على صناعة ضمير الفرد، وتأسيس الأخلاق لأن الدين هو رأسمال قيمي يمكن أن يسهم في تقدم المجتمع في مجالات مختلفة، ولكن بالمقابل يرى الإسلاميون أن الإسلام ينبغي أن يحكم ويسود في المجال العام الاجتماعي، في التشريع وإدارة شئون الدولة، لأن العقيدة لا تنفصل عن السياسة، وأن إقرار العقائد والشرائع الإسلامية لابد أن يتم عبر سلطة الدولة.

يقول الدكتور أحمد محمد سالم أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب جامعة طنطا، في كتابه "العمامة المستنيرة.. تجديد الفكر الديني عند عبد المتعال الصعيدي": ونقلت الحداثة إلينا طبيعة ما حدث في التجربة الأوروبية من فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، وتأسيس النظم العلمانية والليبرالية هناك وما لحقها من تقدم في كل المجالات، وكان لهذا أثره على النخب في مصر وتشكل تيار داخل الفكر الحديث يروج للتجربة الغربية رغم خصوصيتها بدعوي بأنها تجربة كونية ينبغي أن يحتذى بها، وهنا دب الصراع بين العلمانيين والأصوليين في الجدل حول شكل الدولة، ودور الدين في تسييرها، وحدود هذ الدور المنوط به، فالنخب العلمانية تبغي النموذج الغربي بوصفه محددًا لدور الدين في حركة الاجتماع، في حين أن دعاة الأصولية يبغون استمرار سيطرة النموذج التقليدي في شكل العلاقة بين الدين والدولة، ومن هنا كان النقاش الجدي حول هذه المسألة هو نقاش حول أهمية تأسيس الدولة الحديثة بمقوماتها.

وهنا كان طرح خالد محمد خالد في كتابه (من هنا نبدأ) له أهميته الخاصة في مسألة علاقة الروحي بالزمني، والديني بالسياسي في مسألة الدولة وشئون الحكم، فيتحدث خالد محمد خالد عن أصول التمايز بين الدين والدولة، وبين وظيفة كل منهما فيقول: "أما وظيفة الدين فهي الإرشاد والهداية إلى أنبل ما في الحياة من معنويات وفضائل وتبليغ كلمات الله التي تهدى إلى الحق والفضيلة والصلاح، والعمل على تنقية النفس الإنسانية وتجديدها باستمرار حتى تظل مرآة صافية تنعكس عليها أخلاق الله، في حين أن وظيفة الدولة هي رعاية المصالح المدنية للمواطنين بتنظيم معايشهم وإقرار النظام بينهم، وتوفير أسباب الحياة لهم من علم وصحة وحرية، والمحافظة على سلامة الوطن من أي عدوان خارجي وفق أحكام قوانين الدولة، فالفارق كبير بين اختصاص رجل الدولة، واختصاص رجال الدين، أما اختصاص رجل الدولة حماية القانون، وتنفيذه لصالح الأمة، ووسيلته الإكراه والعقاب بالنسبة لكل مواطن لا يحترم قوانين دولته، واختصاص رجل الدين العناية بالنفس الإنسانية كيما تظل فاضلة، وثيقة الصلة ببارئها ووسيلتا الوعظ والإرشاد والإقناع، ومن هنا يصبح منطق رجل الدين غير مستساغ ولا مقبول إذ هو طالب بالدولة ليخدم الدين وينشر مبادئه، ولا يثبت المبادئ الدينية والفضائل المثلى إلا بالتقبل والإقناع" وهنا يهدف خالد محمد خالد إلى تحقيق المسار التي سارت فيه النهضة الأوروبية، والتي حررتها من سيطرة رجال الدين على المجال العام، ورفض تسخير الدين للسياسة، وذلك ببيان أصول التباين بين ثبات الروح الدينية وتغير الزمني السياسي، بين رسالة الدين ورسالة الدولة، لأن في جمع السلطتين يكون له آثار وخيمة على المجتمع والدولة معًا، فهو يهدف فصم العري بين الدين والاجتماع السياسي، وتحرير الاجتماع السياسي من تقييد الروح الدينية.

وهنا ينتقد خالد محمد خالد الذين يسعون إلى أن يكون للدين دولة، وهو مختلف عنها في البنية والرسالة فيقول: "ما حاجة الدين إلى أن يكون دولة؟ كيف يمكن أن يكونها، وهو عبارة عن حقائق خالدة لا تتغير بينما الدولة نظم تخضع لعوامل التطور والرقي والترقي المستمر، والتبدل الدائم !وهل الدين أدنى مرتبة من الدولة حتى يتحول إليها ويندمج فيها؟ إن الدولة بنظمها الدائبة التغيير عرضة للنقد والتجريح، وعرضة للسقوط، ولهذا تم الاستعمار، فكيف نعرض الدين لهذه المهاب أو بعضها" ومن هنا يتساءل خالد محمد خالد، هل بعد ذلك نمزج الدين بالدولة، فنفقد الدولة، ونفقد الدين، أم يعمل كل منهما في ميدانه، فنريحها ونريح أنفسنا ومستقبلنا.

وبناءً على موقفه هذا كانت رؤية خالد محمد خالد لتاريخ الحكم في الإسلام على أنه في معظمه مُلك عضوض توحدت فيه السلطتين الدينية والمدنية معًا، وساد الاستبداد معظم التاريخ الإسلامي، وقد أرجع المزايا التي كانت في فترة حكم أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز إلى خصال وسمات شخصية فيهم لأنهم كانوا يمثلون حالات استثناء للقاعدة فيقول: إن التوفيق الذي صادف أبو بكر وعمر، وجعل لحكميهما تاريخًا مجيدًا لا ينهض دليلًا مناقضًا لرأينا في فساد الحكومة الدينية، لأن هذا الطراز الرفيع من الحكم يعتمد على الكفاية الشخصية، والكمال الذاتي الذين كانت يتمتع بهما رؤساء تلك الحكومات كأبي بكر، وعمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، بدليل أنه عندما توفي عمرو جاء عثمان ذهبت تلك المقاييس المثالية والخصائص الرشيدة التي كانت تتشح بها الحكومة، وحلت محلها أخطاء أودت بحياة عثمان، وفتحت على المسلمين أبواب فتنة عاصفة هوجاء، ثم تولى بعد ذلك الحكم الجائر والملك العضوض الذي تنبأ له الرسول صلى الله عليه وسلم" ولاشك أن حكم خالد محمد خالد على نظام الخلافة من وجهة نظر معاصرة هو حكم يجانبه الصواب لأن هذا النظام كان ابن عصره وظروفه التاريخية وشروطه الاجتماعية، وكونه لم يعد صالحًا الآن فذلك بسبب تطور الظروف التاريخية والشروط الاجتماعية لطبيعة الاجتماع السياسي الحديث والمعاصر، ولولا اضطلاع خالد محمد خالد على التجربة الغربية لم يكن لديه المعيار الذي يقيم من خلال تجربة الحكم التاريخية في الإسلام.

وقد حاول خالد محمد خالد أن يبرز سلبيات الدولة الدينية والتي لها انعكاسه على المجال العام الاجتماعي فيرى: "أن الدولة الدينية تتسم بالغموض المطلق، فهي تعتمد في قياسها على سلطة غامضة لا يعرف مأتاها، ولا يعلم مداها، وصلة الناس بها يجب أن تقوم على أساس من الطاعة العمياء، والتسليم الكلي، والتفويض المطلق، إنها لا تفسر وجودها بأكثر من أنها ظل الله في الأرض، ولا تعطى عن منهاجها سوى فكرة غامضة لا تدع مجالًا لمناقشتها زاعمه أنها فكرة إلهية، كأنها الأفكار الإلهية أحاج وألغاز، ودستورها الذي تخضع له وتقوم به".

وعَدد خالد محمد خالد مثالب الحكومة الدينية أنها لا تثق في الذكاء الإنساني، ولا تمنحه فرصة التعبير عن نفسه، وتلقى في روع الناس أن رواد الخير والفكر، والحرية والإصلاح ليسوا سوى أعداء الله يحاولون نفي الدين عن المجتمع الذي تمثله وتصونه، كما أن الغرور المقدس من شر غرائز (الحكومة الدينية) ولهذا فهي لا تقبل النصيحة ولا التوجيه، بل ولا لفت النظر، فضلًا عن المعارضة والنقد وحرية المعارضة، وحرية الفكر كل هذه المقدسات عملة زائفة في نظرها لا تسمح بتداولها بين الناس أبدًا، كما تتسم الحكومة الدينية بالجمود العريق الذي يجعل استجابتها للحياة استجابة سلبية وعكسية وتتسم كذلك بالقسوة المتوحشة، هل تستمد تبرير قسوتها وبطشها من نفس الغموض الذي تستمد منه سلطتها، فحسب أن تعلق في عنقك اتهامًا مبهمًا بالزندقة والإلحاد" ولاشك أن كل ما قرره خالد محمد خالد ينطبق على الدولة في معظم فترات التاريخ الإسلامي، ولعل هذا هو السبب الذي أثار غائلة شيوخ الأصولية.