رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رضوان السيد يكتب: التقليد الديني.. الجهاديات والتطرف

جريدة الدستور

طوال حوالى ربع القرن، ظلّت دراساتي بشأن الإصلاح والإحياء متركّزةً على أنّ الإصلاحية السلفية والأُخرى التحديثية، قامتا في الأصل بوجه التقليد الديني بمذاهبه الفقهية، وجانبه العقدي (الأشعرية)، والممارسات الصوفية، والدولة السلطانية حتى تلك المتلبسة لَبوسَ الخلافة. ومع أنّ التعاون بين السلفيين والإصلاحيين الآخرين ما ظلَّ قائمًا بعد عشرينيات القرن العشرين؛ فإنّ الطرفين اللذين شاع التنافُرُ بينهما في عدة ملفات معاصرة، ظلاّ يعملان، وكلٌّ على حدة، ضد التقليد المتوارث. وظلَّ الشعار المرفوع لدى كلٍ منهما: الاجتهاد والتجديد، وتجاوُز المذاهب الفقهية، وتوابعها الصوفية والسلطانية في التفكير والسلوك.

وكان المنهج المتبع هو التأصيل، أي العودة للكتاب والسنة مباشرةً من وراء التقليد أو فوقه، إمّا لاكتشاف القراءة الصحيحة للمصدرين (كما لدى السلفيين)، أو لإظهار أنّ هذين المرجعين لا يقفان حجرا عثرة في وجه المؤسسات والممارسات الحديثة في مجالي المجتمع والدولة (الإصلاحيين التحديثيين). وقد أفضى ذلك كلُّه، وخلال عدة عقود إلى تحطّم التقليد الديني أو تصدعه تحت وطأة الهجمات، سواء لجهة المذاهب الفقهية أو لجهة العَقَدية الأشعرية. فالمذاهب الفقهية صارت حجر عثرة في طريق الاجتهاد لدى الطرفين، كما أنّ الأشعرية الاعتقادية صارت ابتداعًا لدى السلفيين الجدد، وصارت غير عقلانية لدى إصلاحيي التحديث.


إنّ هذا الأمر بدأ يتغير مع تبلْوُر أطروحة «الدولة الإسلامية» لدى الحزبيين من الإسلاميين، والتي تطورت إلى «حاكمية»، وإلى ضرورة تطبيق الشريعة لاستعادة الشرعية في المجتمع والدولة! وكانت هناك مسافة قصيرة بين إسلامية الدولة والخلافة. في البداية ما كان هناك طرف لا يتحرج في تسمية الدولة الإسلامية، خلافة، باستثناء «حزب التحرير» الذي أصرّ منذ الخمسينيات على هذا العنوان. ثم صارت سائر أحزاب الإسلام السياسي والجهادي، تُسمّي دولتها «خلافة» وتستذكر بذلك شرعية ومشروعية خلافة الراشدين!
وقد اقترنت «الخلافة» الآن بـ«داعش»، لكنّ التسمية سبقت الإعلان الداعشي بعدة عقود، مع عودة تقاليد البيعة لأمير المؤمنين. على أنّ الأهمَّ من ذلك، هو أنّ هذه المؤسسة السلطوية التاريخية، كانت في الأزمنة الكلاسيكية تدبيرية وغير تعبدية، وهي لدى الإسلاميين المحدَثين اعتقادٌ من الاعتقاد، أو ركنٌ من أركان الدين. وذلك لأن مهمتها لدى الإسلاميين صارت: تطبيق الشريعة، وهو أمرٌ واجب في نظرهم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ويعني ذلك أنه أمكن للمتطرفين الذين يُنكرون التقليد في الأصل بكل أجزائه الاعتقادية والفقهية والسياسية، أن يستخدموا جزءًا من التقليد السياسي القديم، مع إلباسه لَبوسَ الاعتقاد، باعتباره ركنًا من أركان الدين! وقد كان منتظرًا وصولُ الأمور إلى هذا المستوى مع أُطروحة حسن البنّا القائلة بأنّ الإسلام دين ودولة، وما هي الدولة الخالدة في أذهان المسلمين غير الخلافة!

كانت الخلافة تحمل موروثًا ثقيلًا من الحقبة الذهبية للإسلام. وكان التقليديون هم الأشد تمسكًا بها. فيما قال السلفيون إنهم أنشأوا دولة الكتاب والسنة وانتهى الأمر، وقال التحديثيون إنّ الخلافة تاريخٌ مضى وانقضى، وقد قُتل ثلاثةٌ من الخلفاء الأربعة الأوائل، فكيف تكون مثالًا في الدين أو في الحكم الدنيوي. ومضى الأخيرون بالفعل باتجاه الدولة العلمانية الفاصلة بين الدين والدولة. أما الإسلاميون، ومع ازدياد الثقة بالنفس باعتبارهم استولوا بالفعل على المرجعية، فلم يجدوا حرجًا في العودة لاستخدام الخلافة باعتبارها جزءًا من الدين.

وهكذا يتعين علينا أن نكونَ حذِرين في القول بأنّ المتطرفين والجهاديين هم ضد التقليد، فما عادوا كذلك في العقدين الأخيرين، عندما ترسخت أقدامهم على الساحة، وصاروا يستطيعون استخدام أجزاء من التقليد يعتقدون أنها تخدم أغراضهم.

وبذلك فالإصلاح الجادّ صارت دونه عقبتان: التقليد الموروث الذي صار مليئًا بالثقوب والتصدعات، وسهل الاستغلال، والأصوليات الجديدة والتي عادت لاستخدام التقليد بصورةٍ انتقائية.

فلا حلَّ إلاّ بالخروج من الطرفين: من تصدعات الموروث، وانتقامات التغريبيين واستغلاليات الجهاديين، واجتراح سردية جديدة في الدين: «فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض»

نقلا عن « الاتحاد»