رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كف الملاك على كتفى

لم أكن مؤمنًا قط بقراءة الطالع، من فنجان أو ورق أو بإمعان النظر إلى الكف، ظللت أحسب فى كل ذلك أن الإنسان يناوش قدره، يقف على حدوده، يحدق به، لعله يرى مساره ما دام غير قادر على تغييره.. لكن حدث عام ١٩٨٨ أن جاءت لزيارتنا فتاة أرمينية، لم يسبق لها أن رأتنى ولم تكن تعرف عنى شيئًا، وحين قدمنا لها قهوة، قالت صديقتها إن الأرمينية تقرأ الطالع من الفنجان، وصحت بداخلى الرغبة فى مناوشة قدرى، فطلبت منها أن تقرأ فنجانى وفنجان صديق عزيز كان معى، فقالت لى: إن لديك ملاكًا حارسًا طوال الوقت، وليس لصديقك ملاك حارس.. ساعتها ضحكنا وشكرناها، وكدت أنسى تلك الجملة، لكن حياتى كلها فيما بعد، أحداثها، كانت تؤكد لى أن كف ملاك بالنور على كتفى، فرحت أتأمل حياتى الماضية ورأيت فيها تلك الكف. 

حين اعتقلت عام ١٩٦٨ لم نتعرض للضرب أو التعذيب، كان عبدالناصر قد أصدر أوامره بعد النكسة بعدم لمس أى معتقل سياسى، وخطر لى أن حسن الحظ ذلك لم يكن بعيدًا عن كف الملاك المنيرة، لأننى لم أكن واثقًا ماذا قد يحدث لو أننى تعرضت لتعذيب؟. ثم تأملت حياتى بعد ذلك، مرحلة مرحلة، وحيثما مددت بصرى كنت أرى ذلك النور الخفيف يمتد من فوق كتفى ويلقى بضوئه على الطريق من دون أن أشعر. 

سافرت إلى روسيا للدراسة وتعرضت لمصاعب كثيرة، وكنت دومًا أفلت منها وأخرج سالمًا، وعدت إلى مصر ولم يكن لدىّ عمل، ولا وظيفة، ولا دخل، لكن فجأة انفتحت أمامى أبواب العمل فى الصحافة حتى لو كان بمردود قليل وأحيانًا قليل جدًا.. وحين مرضت ذات يوم وداخلنى شك أن الأورام فى ظهرى من النوع الخبيث إذا بها مجرد أكياس دهنية، وذات يوم من خمسة أعوام تعرضت لضربة عنيفة من سيارة فى شارع صلاح سالم، كان المفروض أن تقضى علىّ، لكنها أصابت قدمى فقط. 

وفى كل مرة كنت أنجو فيها، أجدنى أعود إلى قول الأرمينية من الفنجان: «لديك ملاك حارس»، ظلت كفه على كتفى بالنور طيلة ساعات الليل والنهار كل يوم، وكل شهر، وكل عام.. أيقنت يقينًا لا يتزعزع بذلك النور الخفيف، لكنى لم أفهم قط لو أن ملاكى الحارس يحمينى دومًا، فلماذا لاقيت خيبة فى المحبات التى انغمست فيها؟ تذكرت كل البنات اللواتى عشقتهن، ورأيت بوضوح أننى لم أوفق فى محبة، ولو محبة واحدة، كنت أمضى من إخفاق إلى إخفاق، ومن فراق إلى آخر.. أين كان ذلك النور الذى يرعانى إذن؟، وحين سألت الملاك الحامى عن ذلك قال لى: «لقد حافظت عليك من كل المصائب التى يسعنى دفعها، لكن حين يتعلق الأمر بالحب، فإن هناك لدى الطرف الآخر أيضًا ملاكه الحارس الذى ربما كان يحميه منك.. لقد وجدتنى معك فى الحياة كل لحظة، بيدى أن أجعل السيارة تحيد فلا تقتلك، لأنى أتحكم فيما يخصك، لكنى لا أتحكم فيما يخص قلوب الآخرين».. طويت نفسى على عتاب، وقلت لنفسى: «يكفى أن النور كان يحميك من كل ضائقة، وأنه كان يدفع عنك كل بلاء ومحنة، لقد حافظ على حياتك، وأعطاك إياها، وكان عليك أن تعرف كيف تقطف زهورها وقلوبها».. أصحو كل يوم، وألتفت إلى كتفى، وأرى طيف نور خفيفًا فوقها، أود لو استطعت أن أُقبله، ممتنًا ممتلئًا بالعرفان لكف الملاك على كتفى.