الفاسدون يمتنعون

لن أنسى ما حييت مشهد الهجوم المشين الغادر على قسم شرطة أسكن في عقار خلف مبناه أثناء أحداث يناير، وكيف أشعل الغوغاء وأهل التطرف النار في جنبات القسم وحرق وتهشيم عدد هائل من المركبات البوليسية الجديد منها والقديم، وكيف قاوم أهل الحي استمرار ذلك الهجوم وحاولوا إطفاء النيران ومساعدة سيارة الإطفاء ليقوم رجالها بمهامهم بكل الطرق، ولكن هجومهم بأعداد كبيرة، وإلقاء الزجاجات المشتعلة منعهم ومنع السيارة من الاقتراب ومن أداء عملهم للأسف حتى اكتمل لهم تحقيق هدفهم وحرق المبنى والوثائق والأوراق ..
وهكذا دومًا أهل الفساد والمفسدين يفسدون كل عمل طيب يفعله الأبرار من المخلصين للبلاد والعباد، وليحولوا مسمى "الربيع العربي" إلى "الخريف العربي" بانتهازية حقيرة وبتحالف مع الشيطان..
وهي ذاتها انتهازية من اعتدوا على الأراضي الزراعية، والذين استثمروا في أمراض الناس وأوجاعهم في زمن الجائحة بينما أهل الخير والعطاء والبذل من أعضاء الجيش الأبيض يقدمون أرواحهم بنبل واستبسال، وإيثار عظيم ويقع البعض الآخر، منهم مرضى بعدوى كورونا اللعينة!!!
وهي ذاتها أيضًا التي دفعت أهل الجشع لاستثمار التبعات الاقتصادية للحرب الروسية الأوكرانية للمتاجرة بأقوات الشعب وممارسة أعمال الاحتكار والغش والتخزين والتسقيع ورفع الأسعار ببرود وبلادة، وعدم إحساس بكل الجهود الهائلة التي تبذلها مؤسسات الدولة للتعامل مع تلك الأزمات العالمية البالغة التأثير.. 
ولنتوقف عند جانب من بيان وزارة الداخلية الأخير وما كشفت عنه عبر حملاتها الأمنية الرائعة والمستمرة  لمواجهة أعمال البلطجة خلال أسبوع واحد فقط، وضبط الخارجين عن القانون، وحائزي الأسلحة النارية والبيضاء، وإحكام السيطرة الأمنية، وتكثيف الجهود لمكافحة جرائم الفساد بكافة صورها وأشكالها، مما ينعكس إيجابيًا على الإقتصاد الوطنى والحفاظ على المال العام خلال أسبوع.. فى مجال الأمن العام تم إستهداف البؤر الإجرامية شديدة الخطورة ضُبط خلالها 54 متهم ، وبحوزتهم 34 قطعة سلاح ناري و35 قطعة سلاح أبيض، وضبط 32 قضية إتجار بالمواد المخدرة، وتنفيذ 2528 حكم قضائى متنوع، و2 تشكيل عصابي ضما 5 متهمين.. وفي مجال استهداف وضبط العناصر الإجرامية شديدة الخطورة، أسفرت جهود ملاحقة العناصر الإجرامية عن مصرع 2 عنصر، وضبط 393 عنصر إجرامي شديد الخطورة وبحوزتهم 186 قطعة سلاح ناري وكميات من المواد المخدرة المتنوعة.. وفى مجال ضبط الأسلحة النارية والبيضاء غير المرخصة، تم ضبط 751 قطعة سلاح ناري، وضبط 1192 قطعة سلاح أبيض.. وفى مجال ضبط التشكيلات العصابية والقضايا المتنوعة، تم ضبط 14 تشكيلا عصابيا ضموا 57 متهما اعترفوا بارتكاب 64 حادث سرقة متنوعة، وفى مجال الأمن الإقتصادي تم ضبط 9256 قضية تموينية متنوعة، و168 قضية إسطوانات بوتاجاز، بمضبوطات بلغت 1000 إسطوانة بوتاجاز تقدر قيمة الغاز المدعم 135000 جنيه.. وقضايا التيار الكهربائى تم ضبط 81887 قضية في مجال سرقة التيار الكهربائى ومخالفة شروط التعاقد، وقد بلغت قيمة المبالغ المالية المحصلة في قضايا سرقة التيار الكهربائي ومخالفة شروط التعاقد 8،688،096 ملايين جنيه.. وفي مجال قضايا التهرب الضريبي، تم ضبط 1748 قضية في مجال التهرب الضريبي بمبالغ مالية بلغت 2،597،203,200 مليار جنيه قيمة تعاملات مالية مخفاة لم يقم الممولون بإخطار مصلحة الضرائب بها، وجار فحصها فنيًا بمعرفة المصلحة لتسديد الضرائب المستحقة عليها، كما بلغت قيمة المبالغ المسددة لصالح الخزانة العامة للدولة 13,491,994 مليون جنيه.. وفي مجال قضايا الأموال العامة، تم ضبط 55 قضية في مجال مكافحة جرائم الأموال العامة بقيمة إجمالية بلغت 922،305،037 مليون جنيه.. ولا يتسع المجال لاستكمال البيان!!
هناك تعريفات عديدة للفساد الإداري لكنني أظن أنه يمكن الاتفاق على أنه ذلك السلوك الخارج عن القوانين باستهداف تحقيق مصالح ومنافع خاصة بوسائل غير مشروعة ودون وجه حق.. وإذا كان الفساد الإداري ينشأ باعتباره محصلة ومرآة لحالة من التراخي والبلادة والإهمال ونتيجة لتراجع نظم جادة للإثابة والعقاب بشفافية في اتخاذ القرار، وعدم توافر للمعلومات وإتاحتها لكل المتعاملين مع أطراف النظم الإدارية.. فإن انتشار أنواع مختلفة من  الفساد في العديد من المواقع من شأنه توسيع دوائر حدوث كسر القوانين والخروج عن الشرعية والاشتباك السلبي مع النظم المكتبية والبيروقراطية والأخلاقية والقيمية..
ويُعد من أهم تبعات تفشي مظاهر الفساد الإداري تراجع معنويات المواطن ووأد أحاسيس الانتماء للمجتمع وكسر حلقة التواصل مع القيادات والنظام.. والأخطر من وجهة نظري ـ بل وأعده ـ  من أهم تبعات انتشار مظاهر الفساد الإداري هو فقدان الثقة في مؤسسات الدولة وأجهزتها.. إن ما حدث للقطارات والعبّارات ولمسرح بني سويف وما أثير عن مراكز طبية وبحثية من سلبيات وما سطرته الصحف عن مظاهر الفساد في العديد من المستشفيات الحكومية وغيرها من المواقع  في المحليات يثير حالة من التوجس والريبة عند التعامل مع تلك القطاعات الحيوية والاستفادة بخدماتها..
وبكل الصراحة التي اعتاد الرئيس عبد الفتاح السيسي عليها عند مخاطبة الشعب، كشف عن عدد الطلبة الذين انطبقت عليهم شروط الحصول على تدريب على نفقة الدولة بقيمة 30 ألف دولار لكل طالب، مضيفًا: "لما أعمل اختبار لـ 200 أو 300 ألف هلاقى المعايير تنطبق على 50 % مش كده ؟ بنظلم شبابنا وتعليمنا.. لقيت 111 شابًا فقط، علشان تعليمي تعبان".. كنت مستعد لو فيه 100 ألف طالب قسمًا بالله قلت هدفعلهم 30 ألف دولار لكل طالب.. وأرى أن التعليم التعبان الذي يعمل الرئيس على إصلاحه يعد محصلة إهمال وفساد على مدى نصف قرن، ويمثل تركيبة أخرى من منظومات فساد لصالح جماعة انتهازية تثرى على حساب مستقبل وطن..
إن انتشار مواقع الفساد من شأنه إبعاد أصحاب الأدوار الفاعلة المخلصة والشريفة والمحترفة إلى خارج دوائر الإبداع والتفاني مما ينشأ عنه تقدم العناصر غير المحترفة وأصحاب الأداء المتخلف لاختراق الصفوف واحتلالهم مواقع قيادية ووظيفية ومهنية غاية في الخطورة، وتكون المحصلة تراجع دور المؤسسات في قدرتها على تحقيق النجاح، وعليه فإن الحصاد في نهاية الأمر لجهود ومقدرات أمة يكون هزيلًا ومتدنيًا..
 إن التحديث لا يبدأ بصناعة المنتجات، بل يبدأ بصناعة مهارات البشر وتعليمهم وتنظيم قواهم وأدوارهم وإكسابهم قيمًا إيجابية تتنامى.. ولابد من التأكيد على القيم الأخلاقية التي تدعو لها الأديان في المسجد والكنيسة.. في القرآن الكريم آيات يجب التأكيد على معانيها "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" و"إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" و"اتقوا الله وكونوا مع  الصادقين" و"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" وفي الكتاب المقدس "احترسوا  من أن تنقادوا بضلال الأردياء" و"اعزلوا الخبيث من بينكم" و"الأمين في القليل أمين أيضاً في الكثير" و"لأنه ليس خفي لا يظهر ولا مكتوم لا يُعلم ويُعلن" و"لا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة بل بالحري وبخوها".. فماذا بعد هذه الآيات الهادية لنا جميعًا؟.. إن الأمر يتطلب تضافر جهود الإعلام والمؤسسات الدينية وكل قوى الخير في المجتمع من أجل الوصول إلى إدارة لا يستطيع اختراقها أي فساد لنفتح باباً لدخول المستقبل يحدونا الأمل فيه؛ لتحقيق التقدم المأمول للمحروسة حرسها المولى لشعب جدير بحياة كريمة ..