رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجمهورية الجديدة ودراما التنوير

لاشك أن إعلان الرئيس عبدالفتاح السيسي في أكثر من مناسبة لتقديره لدور الفنون الجيدة وتأكيد عزمه على دعمها لإثراء حالة الوعي الجماهيري ورفع مشاعل التنوير في كل بقاع المحروسة، وقراره برعاية أهل الإبداع التي تكفل لهم قدرا كريما من الأمان الاجتماعي والإنساني، وما شهدناه مؤخرًا لتوجيه الرئيس برعاية وعلاج الفنان والإعلامي القدير سمير صبري في رحلة مرضه، يأتي ذلك في إطار تلك القناعات، وجميعها أمور تشكل ملامح عهد جديد  لابد أن يُلاقي بكل حماس وبروح 30 يونيو العظيمة العمل الجاد من قبل مبدعينا، وأن يحرصوا على مقاومة الفنون الرديئة، بل ونبذها ونحن على عتبات الجمهورية الجديدة ..
منذ زمن بعيد حدثنا الفيلسوف والمناضل والناقد الفني الإيطالي "أنطونيو جرامشي"عن مواصفات المواطن المفكر المبدع "إنه ذلك العنصر المنتظم في طبقة اجتماعية أساسية معينة".. نعم، فالتركيبة العضوية للمبدع والانتماء الأصيل للطبقة والشعب والالتحام بثقافته وتاريخه وتطلعاته وأحلامه، تمكنه من التوجه نحو هدف تغيير الواقع كتوجه هام، وهو ما كشفت عنه نجاحات أزمنة النهضة القومية البارزة.. 
نعم، فهناك على سبيل المثال ملاحظات عديدة تم توجيهها إلى بعض من أُطلق عليهم "النخبة المصرية" في زمن اندلاع الغضب الينايري، فمنهم من توهتهم حالة التمترس خلف فكرة إيديولوجية جامدة، ومنهم من اتخذوا من الأداء الحنجوري سبيلاً لكراسي الميديا التلميعية وصولاً لأهداف سلطوية وانتهازية خاصة، ومنهم من نصبوا ذواتهم أوصياء على فكر وأحلام شباب الثورة فتحدثوا وأفاضوا بالنيابة عنهم، وآخرون دفعتهم أهداف خاصة لظرف تاريخي، ومنهم من حركتهم دوافع فكر موتور وعبثي، أومن ساقتهم معارفهم المحدودة لتعاليم الأديان إلى الانحياز لانتماءات طائفية ومذهبية لجماعات تديين البلاد والعباد عبر الدعوة هنا أو التبشير هناك والمتاجرة بالأديان ..
ولكن يبقى للإبداع ورموزه المصرية الأصيلة المطلوب استدعائها الدور التاريخي المحرض لرفض من يشوهون الواقع، وبإعادة قراءة وطنية لتركيبة شعبنا العظيم وتاريخه الحافل بالعطاء الوطني..
لاشك أن الفنون المصرية وأهل إبداعاتها  لن يتراجع دورها التاريخي والحضاري في إحداث التغيير.. لا لوضع الشمع وطمس ملامح الإبداعات التاريخية.. لا للتديين الجبري الشكلي.. لقد قال الشعب كلمته بحضوره العظيم يوم 30 يونيو، والفنان ثوري حتى يبدع، وإبداعاته دائماً محرضة للتغيير ..
نعم، لن يتوقف المتنورون عن أداء دورهم التاريخي فى اظهار الحقائق للناس وبالطبع سيخرج بين حين وآخر متبلدى المشاعر وسطحى التفكير ليدفعوا في وجوهنا بمخرجات نتاج عقولهم المتحجره فى الميدان, ولكن الفكر الانسانى النير البديع سيظل دومًا منارة للشعوب.
إن الذين يعتقدون بتراجع قيم التنوير في بلادنا يُغفلون أن التاريخ يسير عبر موجات الحماسة لمشروع التنوير وفي أحيان أخرى يواجه بموجات  الاعتراض عليه مقابل الإعلاء مجددًا من شأن الفكر التقليدي الاستقراري والقيم المرتبطة به، كما حدث عبر حقب متتالية، وهو مايعد بمثابة مانشيتات عارضة عبر صراع تاريخي يتطلَّب المرور بحقب زمنية  تَطُول أو تَقْصُر، تختفي ثم تعود، وذلك حسب أشكال وطرائق وخطوات البناء وكيف نتعامل مع مشروع التنوير الذي نأمله، وكيف نخطط لدعمه.. ومعلوم أن على التنويري والإصلاحي أن يدفع من جهده ووقته وفكره وحياته ثمن تحقيق تلك الاستضاءات التنويرية، وهو ما أكد عليه الرئيس "السيسي" في مداخلاته الأخيرة إلا أنه وعد بمساندة أهل الإبداع الوطني الصادق ..
وقد كان من أول من أعلن الرئيس دعم إبداعاتهم الكاتب والسيناريست الرائع "عبدالرحيم كمال" صاحب دراما "القاهرة كابول"، وأشاد بتلك التركيبة الإبداعية الداعمة لإثراء الفكر التنويري لإحياء الوعي الوطني والجماهيري بقضايا الوطن.. لقد قدم لنا العمل صيغة درامية ذكية وثرية عبر تناول مجموعة حواديت مشوّقة في حداثة التركيبة وفي رصدها لتفاصيل مثيرة لمسيرة أربعة أصدقاء يقطنون منطقة لها بعد روحي وجماهيري معروف، وهم يمثّلون أربعة أنماط مختلفة.. الإرهابي ورجل الأمن والفنان والإعلامي.
وينشغل الكاتب بطرح علامات استفهام حول العديد من القضايا السياسية والإنسانية والاجتماعية التي تشغل الشارع المصري ويطرحها أهل النخبة المخلصين عبر تفاعل درامي وتشابك فكري بين الأربعة، وبينهم وبين الناس ومع مؤسسات الدولة، والتطرق بشكل خاص إلى ظاهرة الإرهاب، في محاولة لكشف أبعادها ونشأتها ومخاطرها وتركيبة عناصرها..
ونعود لحكاية الأصدقاء الأربعة، لقد عاشوا طفولتهم معًا كجيران في أحد شوارع حي" السيدة زينب"، وتلقَّوا نفس مستوى التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية بحكم ظروفهم الإنسانية والمادية المتوسطة والمتقاربة، مُتنقّلين في الأزمنة بين السبعينيات والعام 2011، لاستعراض الاختلافات التي طرأت على شخصياتهم مجتمعيًا وإنسانيًا لدرجة قد تصل حدّ التناقض، وتثار علامات الاستفهام من خلال الأحداث: ما الذي جرى لتلك الشخصيات؟ وما هو انعكاس تلك التغييرات التي تعرّضت لها مثل تلك النماذج على الوطن؟.. 
يتحوّل أحدهم ليصبح أحد التكفيريين، فيما يصبح الثاني رجل أمن مُكلّفا باعتقال الأول.. من جانب آخر يطلّ الثالث باعتباره رجل الإعلام الانتهازي الذى يُسلّط الضوء على تلك الحالة وغيرها لتحقيق نجاح جماهيري..
بهذه السرديّة الجدلية، يتم تناول الصراع الدرامي وبيان وجهة نظر المجتمع المصرى والعربى حول الإرهاب وجذوره وغيره من المواضيع الشائكة، واستعراض رأى الدين الحقيقي في مقابل دين هذا التكفيري الإرهابي فى هذه القضية..
وأعتقد، ونحن على عتبات جمهورية جديدة لابد أن تلعب القوى الناعمة دورها في تنمية الوعي وإثراء حالة الاندماج الوطني بين الناس في بلادي عبر إبداع مثل تلك الأعمال بتنوعات في التركيبة والأهداف..