رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر.. واستعادة الهوية

ونحن نعيش زمن إحياء والاعتزاز بالحضارة المصرية القديمة.. نتابع رئيس الجمهورية وهو يستقبل مومياوات ملوك وملكات زمن الحضارة المصرية القديمة، ونفرح باحتفاليات إحياء طريق الكباش والاستعداد لافتتاح أكبر متحف حضاري في العالم.. ومع قائد أعاد لمصر هويتها من براثن جماعات الخيانة نتمنى أن تنتهز كل المؤسسات الحكومية والمدنية كل الفرص للتأكيد على ملامح تلك الهوية، نعم.. وصدق شاعرنا العظيم عبدالوهاب محمد، عندما ترنم بهويتنا العظيمة "مصريتنا علينا غالية زي عينينا، هي اللي بتدينا شأن وعز وجاه".
لا شك أن الهوية في النهاية تدعم سخصية المواطن وتمنحه عزة الانتماء للمكان وتدفعه للحرص على سلامته، فالإنسان المعتز بهويته لن يفرط في أرضه، ولن يتاجر في مكتسبات وطنه الحضارية وأثاره أو يدمرها، ولن يترك فرصة في إعلاء راية بلاده النهوض أو النضال من أجلها ويتكاسل أو يتراجع، بل سيجد سعادة بوجوده فيها والمشاركة الفاعلة في تنميتها.
وعليه، فقد سعدت بكلمة الفنانة الدكتورة إيناس عبدالدايم، وَزيرة الثقافة، التي أشارت فيها أن الاحتفاء بمئويات أعلام الفكر والثقافة تمثل احتفاءً مناظراً بالفكر والثقافة وصون الهوية المصرية، وتابعت إنه لشرف كبير وسعادة بالغة أن أشارك في ندوة تحتفي بمئوية الأديب ووزير الثقافة الأسبق، الدكتور أحمد هيكل، صاحب القيمة الابداعية والتنويرية المؤثرة في وجدان أجيال متعاقبة.
أتذكر أنه بتاريخ 10 ديسمبر عام 1999عند تسلم "أحمد زويل" جائزته من ملك السويد "كارل جوستاف السادس" في حفل كبير بقاعة ستوكهولم الكبرى للموسيقى، وإلقاء زويل بالمناسبة كلمة أمام الملك في حفل العشاء التقليدى الذي أقيم بقاعة المدينة الكبرى عقب تسليم الجوائز، أنها كانت نموذجًا لاعتزاز الرجل بهويته المصرية الضاربة في جذور الحضارة القديمة.. في البداية أشار إلى أن ميدالية نوبل التى تُمنح للفائزين وصممها المهندس السويدى ليندبرج عام 1902، إنما تحمل صورة الإلهة المصرية "إيزيس" رمز الأمومة وتبدو فيها خارجة من السحب وعلى وجهها غلالة يرفعها شخص يرمز إلى عبقرية العلم وقدرته على كشف الحجب.
وأشار "زويل" كذلك إلى أن التقويم الزمني الذي توصل إليه المصريون قبل ستة آلاف سنة، كان بداية لقياس العلم للزمن الذي وصل بنا إلى عصر الفيمتو ثانية (زويل حصل على نوبل لقيامه بابتكار ميكروسكوب يقوم بتصوير أشعة الليزر فى زمن مقداره فيمتو ثانية)، كما أن لديه اعتبارًا خاصًا بشأن هذه الجائزة، وهو أنها لو كانت قد عُرفت قبل ستة آلاف سنة، حين بزغت شمس الحضارة المصرية القديمة، أو حتى قبل ألفي سنة حين كانت منارة مكتبة الإسكندرية متوجة لكانت مصر قد فازت بنسبة عالية من هذه الجوائز.
لقد أراد زويل أن يذكر العالم كله، مُستثمرًا الحدث الذى ينتظره ملايين من أهل الأرض في القول بأن مصر هى شمس الحضارة الحقيقية وهى الرائدة فى كل مجالات العلوم والفنون بتاريخها وتاريخ شعبها القديم الذى بنى حضارته بعقول وسواعد أبنائه المخلصين، الذين أتى حفيدهم أحمد زويل بعد آلاف السنوات ليجنى ثمار ما زرعه الأجداد في العلوم، وذكر زويل في كلمته بعد ذلك أنه إذا كانت مصر والعالم العربي لم يحصلا من قبل على جوائز نوبل في العلوم والطب، فإنه يأمل فى أن تلهم جائزته الأجيال الجديدة في الدول النامية إدراك حقيقة أن بإمكانهم الإسهام في تقدم العلم والتكنولوجيا على المستوى العالمي، كما يأمل في أن تحفز هذه الجائزة المنطقة التي جاء منها، في التركيز على البحث العلمي والمجتمع العلمي.
لقد ربط الرجل في كلمته بين التاريخ المصري وبين الحاضر، بين أهمية العلوم في بناء الأمم التي انتهجها الأجداد الفراعنة، وبين نصيحته للشباب العربي للاهتمام بها لأنها بانية الأمجاد والمستقبل بين حبه وشغفه وتقديره لبلده والمعارف التي تحصل عليها منه وبين عرفانه بأهمية جامعات العالم في فتح أبوابها أمامه ليقدم للإنسانية اختراعه المبتكر.
في ختام كلمته، ذكر صاحب "الفيمتوثانية" الجميع بطه حسين، عميد الأدب العربي، الذى كان هو الآخر يستحق نوبل، لولا أزمات السياسة والاستعمار التي حالت دون ذلك، فقال باللغة العربية "ويل لطالب العلم إن رضا عن نفسه"، وعندما ترجمها إلى الإنجليزية ضجت القاعة بالتصفيق ليس لأحمد زويل الذى يُحتفل بفوزه بجائزة نوبل فقط، وليس لطه حسين صاحب الإسهامات العقلية والفلسفية قبل الأدبية أيضًا، بل للحضارة التي أنجبت هؤلاء.