رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سلسلة الهوية

 

فى بعض الأحيان يكون توجيه التحية إلى ما له قيمة أفضل رد على الضوضاء التى يثيرها بعض محدودى القيمة، ويكون العمل الثقافى المتجرد عن المنفعة فعلًا نبيلًا للغاية بالمقارنة بالثقافة التى يسخرها بعضهم لخدمة من يدفع.. كانت هذه الخلفية فى ذهنى وأنا أستعد للكتابة عن سلسلة «الهوية المصرية» التى تصدر عن إدارة النشر فى هيئة قصور الثقافة، وهى واحدة من عدة سلاسل تصدرها إدارة النشر فى الهيئة التى شهدت نقلة نوعية بعد أن تولى المسئولية عنها الشاعر جرجس شكرى وهو نموذج للمثقف الإصلاحى، الذى يضىء شمعة بدلًا من أن يلعن الظلام، ويمارس من خلال موقعه نوعًا من التأثير العميق مضمون التأثير دون صخب أو ضوضاء.. وقد بدأت سلاسل النشر فى الهيئة فى لفت الأنظار منذ حوالى ثلاث سنوات حين تغيرت استراتيجيتها وبدأت فى إحياء كنوز الستينيات الثقافية وإعادة طبعها بإمكانات بسيطة، حيث ظهرت سلسلة من المسرحيات العالمية لكبار كتاب المسرح العالمى كانت قد صدرت فى سلسلة الألف كتاب على زمن العظيم ثروت عكاشة أبوالثقافة المصرية، ثم ظهرت مطبوعات جديدة فى سلسلة الذخائر التراثية منها «تهافت الفلاسفة» لأبى حامد الغزالى، و«تهافت التهافت» الذى هو رد عليه بقلم القاضى ابن رشد، و«المعارف» لابن قتيبة والذى حققه الدكتور ثروت عكاشة، و«نهج البلاغة» للإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه، وكان من مجموعات الكتب التى لفتت النظر مجموعة من الدراسات والكتب التى تؤرخ لثورة ١٩١٩ بمناسبة مرور مائة عام على قيامها، وبدا أن هناك وجهة نظر وراء المطبوعات، وقد علمت فيما بعد أن ترشيحات الكتب يساهم فيها نخبة من مثقفى مصر الكبار دعمًا لهذا المشروع النافع، وقد لفتت كل السلاسل نظرى ورأيت أنها تستحق التحية، لكن ما أثار انبهارى حقيقة كانت سلسلة الهوية، التى تتعقب كتابات كبار المفكرين والباحثين المصريين حول هوية مصر، وتعيد نشرها، وتؤرخ لتاريخ انشغال المصريين بمسألة هوية مصر وكينونتها منذ أوائل القرن الماضى، وفى أعقاب ثورة ١٩١٩ تحديدًا وهكذا تم نشر كتب مثل «فى أصول المسألة المصرية» للدكتور صبحى وحيدة، و«فنون الأدب الشعبى» لأحمد رشدي صالح، وكتاب عن شخصية مصر للدكتورة نعمات أحمد فؤاد، ودراسة ضخمة عن الهوية المصرية للمفكر الكبير وعالم الاجتماع د. أنور عبدالملك، وعناوين أخرى لا تقل أهمية للدكتور لويس عوض، والمؤرخ حسين مؤنس، وقامات أخرى لا تقل أهمية، وكان من اللافت للنظر أن إصدارات الهيئة هذا العام كانت تتواكب مع فعاليات معرض الكتاب الذى تنظمه الهيئة العامة للكتاب فى تكامل واضح بين قصور الثقافة وهيئة الكتاب، فبمناسبة اختيار اليونان كضيف شرف أصدرت سلسلة النشر مجموعة فريدة من ترجمات الأدب والفلسفة اليونانية، منها ترجمات للدكتور ثروت عكاشة، وترجمات للدكتور طه حسين، ومنبع الأهمية هنا أن هذه الكتب كانت قد اختفت من الأسواق وأصبح وجودها أكثر من نادر فى ضوء توجه دور النشر للأعمال التجارية مضمونة التوزيع والربح المادى، وكان مما لفت نظرى مجموعة من كتب التاريخ والدراسات عن الحياة فى مصر القديمة تتميز أيضًا بأنها كتب نادرة، كانت قد اختفت من الأسواق ورفوف المكتبات ضمن ظاهرة اختفاء الدراسات الجادة ذات البعد الفكرى، وفى الحقيقة فإن تجربة النشر فى هيئة قصور الثقافة تدعونا لأن نتمنى لباقى هيئات الوزارة أن تحذو حذوها وأن تنشر كنوز ثقافتنا المصرية والغربية كجزء من صناعة ثقافية ثقيلة تؤثر فى الوعى وأن تتوقف عن تقليد دور النشر الخاصة التى تسعى لنشر كل ما هو خفيف أو تجارى النزعة، ذلك أن كل ميسر لما خلق له، ودور النشر المملوكة للدولة عليها أن تنتقى عناوينها وأن تدخل عالم النشر الإلكترونى لاستقطاب الأجيال الجديدة وإتاحة مضمون جاد ذى بعد وطنى على منصات القراءة الإلكترونية، أما سلسلة الهوية فأدعو إلى وجود مجموعات منها فى مكتبات مدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا السياسية لأن الوعى بمصر هو أول الطريق لخدمتها والانتماء لها وحبها حبًا حقيقيًا، والله ولى التوفيق.