رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التحصين الثقافي في مواجهة المس المؤلم


 

لا شك أن ما يمكن أن يُطلق عليها " الاستنارة الدينية " عند من يدعون إليها لايمكن أن تخاصم  التفكير العلمي ، حيث لا استنارة دينية وسط مجتمع جاهل أو تسوده حالة من التعصب الأعمى ، فالاستنارة مرتبطة بإعمال العقل ، والعقل هو السبيل والمرشد للخير والشر .. للنافع والضار .. للبناء والهدم .. للسلام والخراب .. واستضاءات العقل هي الهادية إلى تحديث المجتمعات وتطويرها وتنويرها والسبيل للتمكن من آليات تحقيق التقدم .. وعليه بات أمر التحصين الثقافي لشبابنا في مواجهة المسْ المؤلم والمؤثر من جراء تدفق دعاوى رموز التخلف ضرورة حتمية .. 
لقد كانت تلك هي لعبة من يتصورون أنهم كُهان وحُراس الأديان في استغلالهم قدسية الأديان استغلالًا سياسيًا خطيرًا.. نعم ، كانت لعبة هؤلاء استغلال تلك الهالة القدسية في إحكام السيطرة على فرق الجهل والمناوئين للاستنارة ومن يدخلون معهم  في مساومات خبيثة لإقناع صناع  القرار السياسي برسائلهم ، وهم يسعون إلى تسييس الدين للسيطرة على القرار السياسي وتشكيل دولتهم الثيوقراطية.
ومعلوم أن من مقتضيات إعمال العقل إبعاد الدين عن السياسة ، فالسياسة تُعد حجر عثرة في نشر سماحة الأديان وتدلس للأسف مفاهيمها السمحة وتدنس قدسيتها وتشوه شكل العلاقة الروحية بين الفرد وخالقه.. وتضعف التوجه العبادي والروحي في المؤسسات الدينية ..
ولا شك أن استضاءات التنوير تناهض وترفض وتكشف جرائم التعصب المقيتة وتفاعلاتها المجتمعية  المؤلمة ومعلنة ومبينة  لتداعيات انتشار جراثيم التخلف والجهل وعلل وأعراض ومخاطر تمكينها لأحشاء   المجتمعات وتفكيك بنيانها الإنساني والفكري والقيمي ..
وإذا كانت الاستنارة هي النقيض الأكثر مناهضة للتعصب والتعصب الأعمي، فلأنها تشتق رسالتها من العلم والمعرفة خلاف التعصب الذي يشتق دعوته من الجهل ، حيث الاستنارة بطبيعتها العلمية والعقلانية تركن للعقل المفكر ووعي المعرفة.. كما أن التعصب بطبيعة ذهنيته المنحازة بتطرف ومغالاة يركن إلى الجهل.. الذهنية المتعصبة تخشى إعمال آليات الحوار الموضوعي المنطقي للانخراط في تفاعل داخلي مع منطلفاتها الذاتية المغلقة وعلى اعتماد فكر جامد غير قابل للجدل أو تنامي الأفكار وصولًا لتحقيق النتائج المنطقية .. ولا يمكن أن تدرك الحق من الباطل أوتميز الخبيث من الطيب.. وأصحاب تلك الذهنية يعيشون في معظم الأحوال في غيبوبة خيالية ترى فيما تعتقده الحق المطلق وغيره هو الباطل المطلق.. خلاف الاستنارة التي تُعمل آليات العلم والمعرفة و المطلق النسبي القابل للتغيير والتفاعل الإنساني الحميد ..
ولما كان الشباب هم عصب المجتمعات وركيزتها الأساسية في الإنتاج وتحقيق التنمية والتقدم والحفاظ على حضارتها وهويتها الثقافية ، فإن قيام مجتمع كمجتمعنا الشاب ( حيث في تكوينه أغلبية من الشباب )  بهذا الدور يتوقف - بدرجة كبيرة - على دور التربية في دعمه بالقيم الأصيلة التي تدفع عنه حالة الاستسهال واستمراء التبعية والوقوع في خطأ الانسياق وراء موجات التحرر والانفتاحية المغرية  دون قيد أو ضابط يحكم مسيرته أو تقليده الأعمى.
إن حالة الاغتراب التي بتنا نرى معاناة الشباب منها صارت تفقده مشاعر الانتماء التي تربطه بالواقع الاجتماعي والتواصل الطبيعي مع أبناء وطنه ، كما أنهم قد يشعرون بحماسهم الزائد بضرورة نقد كل ما يحيط بهم بشكل غير عقلاني وغير مرتب وبلا معايير يمكن القياس عليها ..
ويبدو أن الاستخدام الكثيف والمبالغ فيه لمواقع التواصل الاجتماعي بات يسبب إرهاقًا ذهنيًا وضغطًا نفسيًا عليهم نتيجة التعاطي مع هذا الكم الكبير من المعلومات بتنوعاتها في المصادر والتخصصات والأهداف وتداول الأخبار باختلاف درجات مصداقيتها ومآرب محرريها ، كما أن بعض تلك المعلومات والأخبار الفسبوكية التي تتعلق بإفشاء حالات الحزن التي تعلنها أخبار الحوادث أو رحيل رموز محبوبة من أهل الفن أو الرياضة أو الإعلام تزيد من حالات الاكتئاب والخوف ، ففي كثرة تصفحها على مواقع التواصل الاجتماعي يصاب شبابنا بتداعيات تلك الحالة من آثار المسْ المؤلم للذات البشرية..
ويؤكد علماء الاجتماع أن تعلق شبابنا بوسائل الاتصال الاجتماعي قد يعود في أغلب الأحوال لافتقاد القدوة والرمز وتراجع السلوك القويم والمعرفة النموذج ، وحيث كل شيء تم التشكيك فيه وهبط من اليقين للظن، حتى في ثوابت الأديان ، فكثرت الأسئلة وتزايدت حالة الإقبال الهائلة على طلب الفتاوى وإبطال التفكر والتعقل ومحاولة الفهم ، مما يسر وأعد المناخ والوسط الملائم لسُكنى واستيطان قوافل التكفير والتحريم والتقريظ والتسييس للأديان وتديين الاقتصاد والثقافة والتعليم والرياضة ومقاومة الجمال ودفع القبح لصدارة المشهد الإنساني.