رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إلى أين تقودنا الخرافة؟ من كورونا إلى الجائحة القادمة

العديد من الناس في مصر وفي جميع أنحاء العالم ومنهم بعض الشخصيات من الشريحة المثقفة (فرضا) لازالوا مقتنعين أن فيروس كورونا هو لعبة سياسية واقتصادية ضخمة تديرها أيادي خفية، على الأرجح حكومات بعض الدول الكبرى و/أو أجهزتها المخابراتية أو شركات الدواءالكبيرة التي تنتج اللقاحات حاليا.
في بداية جائحة كورونا تم الحديث عن هذه المؤامرات بكثافة وبلغت المبالغات عنان السماء، حتى أن الكثيرين توصلوا إلى نتيجة نهائية (لا يوجد فيروس أصلا)‬ ولا يوجد مرض وكل هذا ألاعيب قذرة.
بسبب هذا الهراء مات الكثيرون ومنهم قائلي هذه العبارات أنفسهم، ولم تردعهم الأرقام المتوالية للمرضى والضحايا عبر العالم ولا توسلات منظمة الصحة العالمية وحتى ما شاهدوه بأنفسهم يوميا من آلام الناس.
في مارس 2021 توفي رئيس تنزانيا "جون ماجوفولي" بسبب إنكاره لوجود المرض في بلاده ورفضه للتطعيم.
"ستيفن هارمون" ناشط على تويتر سخر من اللقاح ونشر تغريدات ونكات تسخر من التطعيم وتوفي بسبب المرض في يوليو 2021.
"محمد نادي" شاب مصري ذو عضلات مفتولة ظل يقسم أن الفيروس غير موجود بالمرة وأنها مؤامرة من أمريكا لكبح جماح التفوق الاقتصادي الصيني في النهاية توفى "محمد" بالمرض ونقل المرض لوالده.
وغيرهم الكثير من الضحايا

هل سكتت هذه الشكوك؟ لا لم تسكت فهي غير قابلة للموت ويوما تلو الآخر يجد هؤلاء الناس مخرجا جديدا لإثبات المؤامرة الكبرى.
إنها نفس القصة القديمة حينما يبحث الإنسان عن شيء خارج المنطق لتفسير الأحداث متعلقا بخيوط وهمية تمنحه راحة العجز، وهي نفس القصة للبحث عما خلف الكواليس ووراء ما نشاهده بأعيننا لأن ما يحدث "غير معقول"
بالطبع هو غير معقول والسبب هو الكم الهائل من المعلومات المتوفرة والتي تمر أمامنا بكل سهولة، لقد أصبح لكل إنسان يملك هاتفا قدرة على طرح أفكاره وتحليلاته وقناعاته وهو شيء ليس بالسيئ، لكنه يتحول لكارثة حينما لا نعتمد الطريق العلمي لتفسير الأشياء ونبحث عن الخرافة، ونستقي المعلومات من مقتطفات عابرة وتراكيب لملاحظات من هنا وهناك.
وللأسف تشارك بعض وسائل الإعلام في هذه الموجات من تعمية العقل وتقديم وجبات الخرافة للعامة.

في كتابه "العلم الزائف" يقول الكاتب "بن جولديكر" في سياق الحديث عن الحملة التضليلية ضد "التطعيم الثلاثي للأطفال":
"لا يمكن إلقاء المسئولية عن المخاوف حيال التطعيمالثلاثي على شخص واحد، مهما كانت وسائل الإعلام تحاول الآن الدفع بأن الأمر كذلكحتمًا، تُلقَى اللائمة بدلًا من ذلك على مئات الصحفيين، وكُتَّاب الأعمدة، والمحررين،والمسئولين التنفيذيين، الذين دفعوا بهذهالقصة على نحوٍ نفعي، غير عقلاني، وعمدي،إلى صَدْر الصفحات الأولى طوال تسع سنوات متصلة. ومثلما سنرى، أفرط هؤلاء فيالاستقراء انطلاقًا من دراسة واحدة عنشيء عبثي، مع تجاهل جميع البيانات التأكيدية،باعتبارهم   خبراء وجميع التفنيدات اللاحقة في مثابرة مدهشة. فقد استشهدوا بمصادر للسلطة العلمية بدلًا من تفسير الأمور العلمية، وتجاهلوا السياق التاريخي،ونصَّبوا بُلَهاء لتغطية الحقائق، وروَّجوا لقصص عاطفية من آباء ضد أكاديميين مملِّين (قاموا بتلطيخ سمعتهم)، ولعل الأكثر غرابة في الأمر كله، أنهم في بعضالحالات اختلقواالأمور اختلاقًا"

الأزمة في رأيي ليست في وجود ما يسمى "الخرافة" فمنذ بدء تاريخ البشرية والخرافات موجودة وحاضرة، لكن العلم استطاع إزاحة هذه الخرافات دوما وإثبات مصداقيته ونجاحه في ترتيب العالم، غير أن الانفجار المعلوماتي أظهر وجها جديدا يهاجم العلم و/أو يفترض وقوعه في أيدي سلطة سياسية خفية تريد التحكم في البشر.

ترى ما الذي يدفع الأيادي الخفية لهذه المؤامرة الكبرى؟
ما الذي يدفع الحكومات أو المخابرات لاختراع فيروس يقتل الناس؟ وبالتحديد يقتل الملايين؟
نظرية المليار الذهبي هي النظرية التي يؤمن بها الكثيرون فقد أرادوا (لا نعرف من أرادوا) التخلص من نسبة كبيرة من سكانالكوكب ليعيش الباقون في سلام فالأرض لم تعد تحتمل هذا العدد الكبير من البشر.
لنفترض أن النظرية صحيحة من هم الذين اجتمعوا ووضعوا هذه الخطة وبدأوا في التنفيذ على هذا المستوى العالي من الدقة، ولو جزمنا بصحة دقتهم الخيالية تلك، كيف استطاع "فلان" أن يكشفهم بهذه السهولة المحضة وينشر حقيقتهم؟
هل الهدف السيطرة على عقول البشر؟ 
بمعنى أن هذا الفيروس به شيء ما يدخل في جسد الإنسان ويسيطر عليه وعلى أفكاره ليكون تحت رحمة الأيادي الخفية؟ 
فكرة تستحق التأمل، ولكن ما الهدف أيضا؟ هل الهدف أن تتحكم فيك أمريكا، أو الصين، أو بريطانيا، أو فرنسا، أو كلهم معا فتشتري منهم منتجاتهم مثلا أو يوجهوك لفعل عدائي أو فعل محدد يخدم مصلحتهم… مسألة معقدة للغاية خاصة أن هذه الأهداف متحققة فعليا.. الدول الغربية تملك السيطرة على العالم بدون هذا الفيلم الكبير..
لو افترضنا أن هذه المؤامرة صحيحة، من دبرها؟ 
لو كانت أجهزة المخابرات فهل هذا يعني أن هناك اجتماع حدث بين هذه الأجهزة من عدة دول بعد الاتفاق مع رؤساء وزعماء هذه الدول بهدف تنظيم العالم طبقا لأهدافهم ثم أطلق أحدهم هذه الخطة الجهنمية فصفقوا له ثم جمعوا مجموعة كبيرة من العلماء من دولهم ووضعوهم في معسكر وقالوا لهم (نريدكم أن تخلقوا فيروس، وتخلقوا لقاح له وتضعون في هذا اللقاح شريحة مغناطيسية تجعلنا نتحكم في البشر) فأومأ العلماء بالموافقة وشرعوا في تحقيق هذا الطلب البسيط للغاية ، ثم اجتمع قادة المخابرات مع العلماء للتصديق على الخطة، ثم حددوا موعدها لهاوجيش من المنفذين من الأطباء والممرضين وغيرهم واختاروا الصين كمكان لبداية الفيلم وتوكلوا على الله وبدأت الجائحة.
طبعا هذه الطرفة بعقل بسيط وهادئونظرا لاستحالتها اللوجستيةمبدأياغير قابلة للتحقق على الإطلاق، لكن أصدقاءنا المؤمنون بالخرافة يجدونها منطقية للغاية.

الواقع يقول إنه لم يعد هناك الكثير في هذا العالم الذي نعيش فيه، يقع تحت بند "خفي" أو "سري" حتى في الحروب والمواجهات بين الدول.
عدنا نعرف على سبيل المثال جميع الأسلحة وأعداد القوات المسلحة وحتى عدد الرصاصات وأعمار الجنود في جميع دول العالم وأصبحت الكفاءة هي الأساس وليس القدرة على الاختباء، لم يعد هناك محطة "المطار السري" أو الجاسوس الذي ينقل معلومات للعدو عن أزمة السكر أو طوابير العيش لاستنتاج مدى الجاهزية للقتال.
العالم يتغير ونحن لا زلنا نمارس الخرافة والعداء للعلم بكل فخر.

في كتابه الشهير "التفكير العلمي" يقول الدكتور "فؤاد زكريا": 
"في اعتقادي أن الشعور بالعجز هو العامل الأساسي في ظهور الخرافة واستمرارها، وهذا الشعور يتَّخذ أشكالًا تختلف باختلاف البيئة والعصر، ولكن نتيجته دائمًا واحدة؛ هي أن يلجأ الإنسان في تعليله للأحداث إلى قُوى لا عقلية تُساعِده على التخلُّص من المشكلات التي يواجهها تخلصًا وهميٍّا، بدلًا من أن تُساعده على حلها أو حتى مواجهتها بطريقة واقعية."
 

كلما تحدثت مع أحد هؤلاء الأصدقاء المثقفين المؤمنين بالمؤامرة الكونية، أجده ينظر نظرة المتمعن الخبير العارف فيما وراء الأمور والتحركات العالمية الاستراتيجية لإفساد البشرية وإصابتها بالأمراض ويتأسى على سذاجتي، رغم أنه يطلق أحكامه الخرافية دون أي أدلة ويقهر العلم والمنطق دون أي احترام.
ترى ماذا سنفعل في مواجهة الجائحة القادمة؟