رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مخاطر تجريم الانتحار

تقدم أحد أعضاء مجلس النواب مؤخرًا باقتراح مشروع قانون يجرّم الانتحار ويعاقب على اللجوء إلى الانتحار، وللأسف فإن المقترح المقدم يفتقد الفهم العميق لظاهرة الانتحار بأبعادها الاجتماعية والنفسية المعقدة، ويفتقد أيضًا فهم العواقب السلبية لهذا القانون من النواحى الاجتماعية والنفسية والسياسية.

إن قانون العقوبات فى مصر لا يُجرم المنتحر ولا محاولات الانتحار التى لا يسفر عنها الموت، بل ينص القانون فى المادة رقم ١٧٧ على معاقبة التحريض على الانتحار، وهذا يعكس مدى وعى التشريعات المصرية بخصوصية وحساسية موضوع الانتحار، وتوجيه الاتهام لمن يروجون أو يحرضون على الانتحار باعتبارهم يلحقون الضرر بالبشر فى المضى نحو مزيد من اليأس والتخلص من الحياة، كسبيل أوحد فى مواجهة الضغوط الاجتماعية والنفسية.

ويستند قانون العقوبات المصرى إلى أن مبدأ الحق فى الحياة كحق إنسانى تجب حمايته، وفى هذا إدراك ضمنى بأن من يقدم على الانتحار هو الطرف الأضعف الأولى بالحماية من المحرضين على موته. 

غير أن التعديل الجديد المقترح يغير من فلسفة قانون العقوبات، بحيث يجعل الانتحار جريمة والمنتحر مجرمًا تجب معاقبته دون الالتفات إلى معالجة العوامل التى دفعت الشخص إلى الانتحار، وذلك من منطلق أن الانتحار يلحق الضرر بالمجتمع ومصدره كامن فى المنتحر، وتجب معاقبته، وفى هذا تكريس لمبدأ إلقاء اللوم على الضحية.

حيث تنص التعديلات الجديدة بوضوح على «معاقبة الأشخاص الذين حاولوا الانتحار وفشلت محاولاتهم فى أول مرة بالإيداع فى المصحة النفسية لمدة ثلاثة أشهر، وبحد أقصى ٣ سنوات ما لم يقرر القاضى غير ذلك»، وفى حالة تكرار محاولة الانتحار تكون العقوبة «غرامة لا تقل عن ١٠ آلاف جنيه ولا تجاوز ٥٠ ألف جنيه»، وهذا يعنى تجريم واضح لمن يحاول الانتحار، واعتبار الإيداع بالمصحة النفسية كالسجن فى سياق منطق العقوبة وليس التمكين من الحياة. 

وفى هذا التعديل التشريعى تأكيد صارخ للمعنى الذى كتب عنه المفكر الكبير ميشيل فوكوه الذى يعبر فيه عن جوهر السيطرة على البشر عبر احتجازهم تحت مبرر إصلاحهم أو تأهيلهم أو تعليمهم، وهو ما يجعل السجن والمصحة والمدرسة ثلاث مؤسسات للهيمنة على البشر أكثر من كونها أداة لتمكينهم من تحسين نوعية حياتهم. 

للأسف الشديد يأتى التعديل الجديد ليرسخ الوصمة الاجتماعية للمنتحرين، ويعزز لديهم شعورًا عميقًا بالمظلومية، ويضع المجتمع والدولة معًا فى عداء مباشر وصارخ معهم دون فهم حقيقة الشعور باليأس من الحياة لدى المعرضين للسلوك الانتحارى، الذى تنتج عن مشاعر بالظلم والاضطهاد وانعدام الأمل فى الحياة برمتها، حيث تبدأ مشاعر اليأس من وطأة الوصمة الاجتماعية للمنتحر بأنه مختل نفسيًا، ثم تتفاقم المعاناة مع حدة الوصمة الدينية للمنتحر بأنه كافر، وها نحن نصل الآن إلى قمة الازدراء بموجب الموقف التشريعى الأخير الذى يضيف وصمة قانونية للمنتحر بأنه مجرم، وبذلك يكتمل مثلث الفناء الحتمى للمنتحر، بالوقوف على حافة الوجود، إما بقتل النفس بغير رجعة أو الثأر والانتقام من المجتمع الظالم.

التشريع الجديد يمثل نوعًا من الممارسات المتطرفة فى استخدام القوانين، وقد لاحظنا خلال السنوات القليلة الماضية ميلًا نحو التعسف فى التشريعات التى تغلظ من العقوبات خاصة فى القضايا الاجتماعية والأخلاقية والحساسة اجتماعيًا ونفسيًا ظنًا من الذين يقترحونها بأن عصا القانون الغليظة كفيلة بمكافحة أى ظاهرة اجتماعية سلبية، رغم أن التجارب تشير إلى أن العقوبات المشددة لن تسفر عن أى نتيجة فى ظل بقاء عوامل إنتاج أى ظاهرة سلبية، بل يمكن للعقوبات المشددة أن تؤدى إلى مزيد من التواطؤ المجتمعى حول حالات الانتحار وإخفائها، ومع استمرار حالات الانتحار دون معالجة جذورها يتسبب ذلك فى إضعاف مبدأ سيادة القانون كما هو الحال مع حالات الثأر التى لا تزال جارية رغم تجريمها بالقانون، ومن ثم يؤدى ذلك إلى النيل من هيبة الدولة الحارسة على تنفيذ القوانين، وفى هذا تعزيز لمزيد من الفجوة بين المجتمع والدولة.

لا شك أن الانتحار ظاهرة سلبية، وتحتاج إلى مواجهة مجتمعية شاملة للحد منها، ولن يتأتى ذلك بموجب الإفراط فى القوانين والعقوبات وتجريم المنتحرين، وكان من الأجدى على من اقترحوا مشروع القانون الجديد أن يطوروا قوانين ملزمة على المؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية بأن تقوم بمسئوليتها الاستباقية فى مقاومة الظاهرة والإسراع بتقديم الدعم النفسى والاجتماعى والصحى لكل من يحاولون الانتحار لاحتوائهم، وإدماجهم فى الحياة الاجتماعية ومنحهم الأمل فى الحياة.

كان لدينا أمل فى مجلس النواب أن يطور قوانين صارمة لتفعيل العمل الاجتماعى والنفسى فى مواجهة الانتحار، واستحداث خطوط ساخنة لنجدة كل من يحاولون الانتحار والحفاظ على خصوصيتهم، ومنحهم الثقة فى الدولة باعتبارها الأمينة على حقوق المواطنة ومبدأ الحق فى الحياة لكل المواطنين.

لقد ترك أصحاب مشروع القانون الجديد كل ذلك، وانحصرت اهتماماتهم فى الجريمة والعقاب واستخدام الدولة كأداة للعقاب بدلًا من التشريع المعزز لآليات الدعم والمساندة الاجتماعية للفئات المعرضة للانتحار.