رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أن نثق بما نراه.. كيف غيرت الفوتوغرافيا مفهومنا عن الموت (لحظات أخيرة)

تواجه الرغبة في الاحتفاظ بصور بعد الوفاة بنفور اجتماعي ولا تمارس إلا في نطاق محدود الآن، إذ يعيش البعض في وهم إنكار الموت بعدم الاعتراف به عبر تصويره والاحتفاظ به، ثمة عادات للحداد تدور حول غبار المقابر الذي لا يجب أن يظل ملتصقا بملابس الأحياء لأنه فأل سيئ. 

في حين أن صور الموت مقبولة تمامًا كجزء من أخبارنا اليومية، ففي المعتاد تطالع الجريدة وتحاط بصور ضحايا التفجيرات أو العمليات الإرهابية أو الحروب، بل قد يحتفي البعض بصور القتلى مثل مقتل إرهابي شهير، ربما كنوع من القصاص الذي يبرر عبثية الموت أو بسبب أن الأشخاص على شاشات التليفزيون وفي الصحف يظلون شخصيات ولا يبدو أنهم أناس حقيقيون بماضٍ وتاريخ وأحباء.

منذ انتشار الفوتوغرافيا يقترب المصورون من الموت باستراتيجيات مختلفة، على سبيل المثال صنع «بايارد» أول صورة شخصية ملفقة للانتحاركرجل غارق، كان بايارد M. Bayard مصورا طور طريقته الخاصة لإنتاج الصور الإيجابية المباشرة باستخدام ورق كلوريد الفضة، وكانت الصورة الناتجة صورة فريدة لا يمكن إعادة إنتاجها.. في صيف عام 1851 سافر بايارد مع مصورين أآخرين في أنحاء فرنسا لتصوير الآثار المعمارية بناءً على طلب لجنة الآثار التاريخية، أقنع فرنسوا أراغو- صديق لويس داجير الذي اخترع طريقة الداجيروتايب المنافسة- بايارد بتأجيل إعلان اختراعه، وهو ما كلفه عدم اعتراف أكاديمية العلوم الفرنسية بأنه أحد المخترعين الرئيسيين للتصوير الفوتوغرافي.. كرد فعل على الظلم الذي شعر أنه تعرض له، تظاهر بالانتحار في صورة بدا فيها كرجل مات غرقا وظهر في وضعية الجلوس والانحناء إلى اليمين، وكتب بايارد على ظهر صورته:

بورترية شخصي لبايرد ملفقا صورة إنتحاره

"الجثة التي تراها هنا هي جثة M. Bayard، مخترع العملية التي سمحت لك برؤية الصورة المعروضة لك للتو.. وبقدر ما أعرف، فإن هذا المجرب الذي لا يعرف الكلل قد شغل اكتشافه منذ حوالي ثلاث سنوات، قالت الحكومة، التي كانت سخية للغاية مع السيد داجير، إنها لا تستطيع فعل أي شيء للسيد بايارد، وقد أغرق البائس الفقير نفسه.. لقد كان في المشرحة منذ عدة أيام، ولم يتعرف عليه أحد أو يطالب به".

لكسب التعاطف، لم يتوان عن تمثيل الموت وإعلانه دون خوف، كانت صورته المزيفة بداية لتصوير صور اللحظات الأخيرة وبمثابة إعلان أن الموت يمكن تصويره ومن خلاله يمكن لفت الانتباه.. في النهاية قدم تفاصيل العملية إلى الأكاديمية الفرنسية للعلوم في 24 فبراير 1840، مقابل المال لتطوير معداته.

أثارت صورة الذبول «Fading Away» عام 1858 لهنري روبنسون (Henry Peach Robinson) الجدل الكبير لأنه يصور فتاة تحتضر، حيث رأى النقاد أن مثل هذا الموضوع مباح في الرسم الزيتي لكنه من غير الملائم أن يخترق الفوتوغرافي لحظة حميمية عائلية حزينة ليصور الموت. 

صورةالذبول (( Fading Away عام1858 لهنري روبنسون من أشهر المصورين البيكتورين

صورة الذبول «Fading Away» عام 1858 لهنري روبنسون من أشهر المصورين البيكتورين

ورغم ذلك بعد هذا التاريخ صارت صور ما بعد الوفاة منتشرة بشدة، ربما لأن الفيكتوريين كانوا يشاهدون الموت بشكل متكرر داخل منازلهم، ويقومون بترتيبات لجثث أحبائهم بأنفسهم، وهو ما جعل التعاطي مع الموتى عاديا. 

إذا كان تاريخ البشرية يعلمنا أي شيء، فهو رغبة الناس في الحصول على سجلات مرئية موثقة، والاحتفاظ بلحظاتهم الخاصة كما يرغبون هم في تذكرها، وربما يضفون عليها معنى غير حقيقي، ما يقودنا لتساؤل عن مدى مصداقية الذكريات نفسها، لكن إذا كان تصوير الموت مستهجنا الآن فماذا عن رؤية صور الإعدام؟

أول صورة إعدام مباشرة

سميت الصورة أعلاه بأنها أشهر صورة في التابلويد في العشرينيات من القرن الماضي، إنها أول صورة تُظهر إعدامًا بواسطة كرسي كهربائي، التقطها المصور توم هوارد عند إعدام روث سنايدر في 12 يناير 1928.. قبض على سنايدر وحكم بإعدامها لقتلها زوجها بمساعدة حبيبها، لم يُسمح للمصورين بمشاهدة عمليات الإعدام أو توثيقها، لذلك قررت صحيفة «نيويورك ديلي نيوز» استخدام تكتيكات التجسس للحصول على صورة للإعدام الفعلي، حيث طلبوا مساعدة مصور غير معروف يُدعى توم هوارد، الذي تظاهر بأنه كاتب ووصل للسجن. دون علم السلطات في السجن، كان هوارد مزودًا بكاميرا مصغرة خاصة مربوطة بكاحله الأيمن، احتوت الكاميرا على لوح فوتوغرافي لتعريض ضوئي واحد، اتصل غالق الكاميرا بسترة هوارد بحيث يمكن الضغط عليه من خلال جيب السترة.. وكشفت صحيفة «New York Daily News» بعد ذلك عن تفاصيل التصوير، والكاميرا الآن مملوكة لمتحف التاريخ الأمريكي.

 يصور البعض لحظات مأساوية من القتل والموت بكثافة، بحيث يبدو أن الموتى لا يزالون على قيد الحياة، بينما ينتج البعض الآخر صورا عديمة المشاعر، حيث يبدو أن الجثة ليست أكثر من مجرد شيء، هذه الصور الفجة قد تجعلنا نشعر وكأننا ننظر لفنائنا ونواجهه.

صورة (النسر والفتاة )

كان كيفن كارتر Kevin Carter مصورًا صحفيًا من جنوب إفريقيا، وهو أول من صور إعدامًا علنيًا في منتصف الثمانينيات، التقط كارتر صورة «النسر والفتاة»، وظهرت لأول مرة في صحيفة «نيويورك تايمز» في 26 مارس 1993، وهي صورة لطفل يعاني من المجاعة ينهار أثناء محاولته الوصول لمركز تغذية تابع للأمم المتحدة على بعد حوالي نصف ميل في أيود، السودان، ينتظره نسر ليكون وجبته بعد الموت.

رغم بؤس الصورة فقد نجا الطفل وحازت الصورة على جائزة «بوليتزر» للتصوير الفوتوغرافي 1994. لكن كارتر انتحر بعد أربعة أشهر من فوزه بالجائزة في 27 يوليو 1994، حيث قاد سيارته إلى نهر Braamfontein Spruit في جوهانسبرغ، وهو المكان الذي كان يلعب فيه عندما كان طفلاً، هناك انتحر بسبب التسمم بأول أكسيد الكربون، تقول كلماته الأخيرة: "أنا مكتئب.. دون نقود للإيجار.. أموال لدعم الطفل.. أموال!! تطاردني الذكريات الحية للقتل والجثث والغضب والألم .. للأطفال الجوعى أو الجرحى، والمجانين الذين يسعدهم الزناد، وغالبًا ما يكونون من رجال الشرطة، من الجلادين القتلة".

(سقوط رجل - Falling Man)

صورة المصور ريتشارد درو Richard Drew (سقوط رجل- Falling Man) لرجل يسقط من أحد برجي 11 سبتمبر 2001، في الصورة كبرياء يتحدى الموت، إذا لم أستطع اختيار موتى فليكن شريفا، يسقط الرجل كسهم، يبدو مسترخيًا، يندفع في الهواء قابضا يديه غير عابيء بالاندفاع المخيف للجاذبية، ساقه اليسرى مثنية عند الركبة، مرتديا قميصه الأبيض، و سترته، وسرواله الأسود في جميع الصور الأخرى.

 يبدو أن الأشخاص الذين فعلوا ما فعله وقفزوا  يكافحون، بعضهم بلا قميص، تتطاير أحذيتهم وملابسهم، يبدون مرتبكين، كما لو كانوا يحاولون النجاة.. على النقيض، فإن الرجل في الصورة موازٍ تمامًا لخطوط المباني خلفه يقسمها ويشطرها على الرغم من أنه غافل عن التوازن الهندسي الذي حققه. 

بعض الناس الذين ينظرون إلى الصورة يرون الاستسلام؛ يرى الآخرون (الحرية) والتمرد في وضعية الرجل، كأنه واجه حتمية الموت ذات مرة، فقرر مواجهتها كرمح، عازم على بلوغ نهايته، يسقط ويستمر في السقوط حتى يختفي.

صور الفنانون على مر العصور صورا بهدف فهم الحياة نفسها، وصورا أخرى لإظهار أن الموت كامن في الزاوية، لقد ولدت من الرغبة العميقة في فهم الدائرة الكاملة للحياة، صورا تصارع الحضور الحتمي للنهاية التي تنتظرنا جميعًا.. عندما نفكر في صور أحد أفراد الأسرة المحتضرين من المرجح أن يستحضر العديد من الأشخاص صورًا نمطية مرتبطة بالموت، صورا مرعبة ومؤلمة يمكن أن تلتقط الألم أو المعاناة أو الخوف أو مجموعة متنوعة من المشاعر السلبية الأخرى المرتبطة بالموت.

عندما شُخّص والد بريوني كامبل بالسرطان، قيل له إن أمامه تسعة أشهر فقط للعيش، قررت بريوني توثيق ذلك بسلسلة من الصور ومقطع فيديو مصاحب يسمى «مشروع الأب» The Dad Project، كانت هذه العملية واعية للغاية حيث تعاون كل من الأب وابنته، كان على كل منهما أن يفكر مليًا فيما قد يعنيه القيام بهذا المشروع بالنسبة لهما، المشروع بالنسبة لوالدها كان يعني التعرف على ابنته بطرق جديدة وقضاء آخر أيامه في فعل شيء مفيد ومنتج، وبالنسبة لبريوني كان الأمر أكثر من وسيلة لتوديعه، كانت كاميراتها وسيلة لإبعاد نفسها عن واقع الموقف.

 

"لقد تألمت لأشهر حول ما إذا كان يجب أن أحاول تصوير علاقتنا، كل يوم أدى لتركيز أكبر على وفاته الوشيكة.. عندما تكتشف أنك ستفقد شخصًا تحبه، فأنت لا تعرف ما هي القصة، لذلك لا يمكنك حقًا التخطيط لكيفية سردها".

كان مشروع كامبل قد تعامل مع المشاعر التي شعرت بها عندما كان والدها يحتضر، لم تكن تعرف ما الذي سيحدث بعد ذلك أو متى بالضبط سيموت من مرضه فخلقت قصة عن الحب من خلال التقاط صور جميلة في وضع ميؤوس منه. 

"حاولت أن أجعل الصورة أكثر جمالاً من الواقع، علمنا اليوم أنه سيموت قريبًا.. خرجت ونظرت إلى السماء بينما كنا ننتظر سيارة الإسعاف".

من خلال التقاط صور والدها بهدف واعٍ لإحياء ذكرى الصور حتى قبل وفاته، فإن التقاط صور لها يظهر تفهماً كبيراً والتصالح مع الموت بشكل عام.. من خلال تصوير نفسها، فهي تعد نفسها بشكل أساسي عندما تموت وتستكشف هذا من خلال الصور فإنها تحيي ذكرى نفسها في الصور باستخدام نفس فكرة التقاط صورة لتكون هناك عندما تموت.

الصور تظهر شجاعتها في السماح للناس برؤية أضعف حالاتها وأكثرها ألما، حيث تدمج  مرض الأب وتأثير المرض على ابنته مما يضفي الطابع الإنساني على العملية برمتها، الموت هنا ليس خبراً، بل حدث يومي واقع يحدث باستمرار لك ولأحبائك وكم هو قريب.

المجموعة تمثيلًا واقعيًا للموت، ثمة صور يصعب مشاهدتها وصور سعيدة ومضحكة.. فجزء من الحياة هو أن كل شخص يجب أن يموت لا مفر من هذا على الأقل، يفتح The Dad Project الباب أمام الناس ويسمح لهم بالدخول في هذه الرحلة الدقيقة.

عندما اكتشفت عائلة المصور Josh Neufeld إلموت الوشيك لوالده قررا معا تصوير لحظات حياته الأخيرة، ولأن جوش يعتبر والده سنده ومعلمه الدائم فقد اختارا معا اسم المشروع "لقاء الموت".

وهو معنى مزدوج له تأثير مؤثر، وفي خلال شهرين فقط تحولت حياة والده واختزلها الأطباء إلى جملة موجزة «السرطان والأيام المعدودة».. كانت مجرد شهور منذ بداية الألم الأول .. التشخيص.. الموت..  ينتقل فيها من شخص محب للحياة ، إلى رماد في صندوق.

يقول جوش: "المفارقة أن الرجل الذي أطلق على المشروع اسمًا فجأة وبشكل غير متوقع للغاية أصبح هو الموضوع، أشعر بحزن عميق في صميمي لفكرة أن أعيش بقية حياتي دون أبي، ومع ذلك، اخترت أن أتدفق مع ذلك النهر وأترك تياره يسحبني لدوامات الفرح والحزن، أشارك الألم، ربما يدرك البعض أننا جميعا في نفس الدائرة بمستويات مختلفة".

ما يتضح هو أنه على الرغم من أن البشر يستجيبون لمواجهتهم مع الموت بطرق مختلفة جدً، فإنهم جميعًا يستخدمون التصوير الفوتوغرافي كوسيلة للتصالح مع الخسارة. 

كلنا نفقد أحباءنا، ومع ذلك، تحبط رغبتنا في التعبير عن الحزن لا صريخ ولا بكاء، ثمة إجماع لدفعنا للتماسك والتوقف عن الانهيار.. على الرغم من أننا نشارك آلامًا مألوفة، إلا أن الصمت الاجتماعي والمحرمات تجاه الحديث عن الموت تخلق العزلة والوحدة في تجربة إنسانية عالمية، وهي تجربة لا توجد إلا بسبب ارتباطنا ببعضنا البعض لكننا نتجاهلها.. يقودنا الحزن إلى الاعتقاد بأن قلوبنا محصنة ضد الحزن، ومع ذلك، في خضم كل ذلك، تغرينا وحدتنا التي يحركها الحزن للوصول إلى، والتشبث، والتمسك، والأمل في شخص يفهم، شخص يهتم.