رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبوالشعراء.. فؤاد حداد الذى لا نعرفه

لا أظن أن هناك مواطنًا مصريًا لا يحفظ ولو مقطعًا صغيرًا من أغنية لفؤاد حداد صاحب «المسحراتى، الليلة يا سمرة، صلينا الفجر فين»، وعلى الرغم من أنه يكتب بالعامية القاهرية، لا أظن أيضًا أن هناك مواطنًا عربيًا لا يحفظ شيئًا لصاحب «الأرض بتتكلم عربى»، ولكن هل هذا يعنى أننا نعرف الرجل حقًا؟

عندما طلبت من صديقى الشاعر أمين حداد طباعة الأعمال الكاملة لوالده بالهيئة المصرية العامة للكتاب عام ٢٠١٢، كانت المفاجأة أنها تبلغ ١٢ مجلدًا، وأن متوسط عدد صفحات المجلد الواحد حوالى ٥٠٠ صفحة، أى أنك أمام منجز إبداعى ضخم يصل إلى ٦٠٠٠ صفحة تقريبًا من القطع الكبير، ولا أعرف شاعرًا مصريًا أو عربيًا قارب إنتاجه هذا الكم الضخم، مع الإقرار من حيث الجودة بما قاله حداد عن نفسه:

«أنا الأديب وأبو الأدبا

اسمى بإذن الله خالد

وشعرى مفرود الرقبة

زى الألف ورقم واحد»

والمجلدات من الأول إلى التاسع تضم الدواوين الشعرية المؤلفة فقط، وفقًا لتصنيف أولاده الأفاضل «أمين وحسن وسليم» الذين بذلوا جهدًا وفيرًا فى جمع وتوثيق تراث والدهم المطبوع والمخطوط أيضًا، وقد بلغت هذه الدواوين ٢٨ ديوانًا، صدر أولها عام ١٩٥٢، وكتب آخرها عام ١٩٨٤، قبل أن يتوفاه الله فى أول نوفمبر عام ١٩٨٥.

أما المجلدات الثلاثة الباقية فتضم ١٣ عملًا تتنوع بين ترجمات: الشعر والأدب وقصص الأطفال، وبين كتابة: الفوازير وقصص الأطفال والمقالات النقدية، ومنها تجربته التى لم تكتمل التى تحمل عنوان «الحماسة الجديدة».

إذا كان المعروف فى التراث العربى أن «أبا تمام» قد اختار فى حماسته أروع الشعر الفصيح من وجهة نظره، فكذلك فعل حداد أيضًا حيث يقول فى مقدمته: «هذه الحماسة الجديدة تجرى على غرار الأولى فى إثبات اللباب دون القشور، وإيثار الجيد دون المشهور»، ولكن لأنها جديدة؛ فإن حداد قد قصرها على شعر العامية، حيث يسحبنا بداية من ابن قزمان، حتى نجد أنفسنا فى قلب الفلكلور الصعيدى:

ومشينا على كوبرى إسنا

ولفحنا الهوى ونعسنا

واللى شبكنا يخلصنا

سلم على سلم على

ولدى يا ولدى، سلم على

وكم كنت أتمنى أن تكتمل هذه التجربة حتى نتعرف بصورة أفضل على مفهوم حداد عن شعرية العامية من خلال نماذجه المختارة، وشروحه النقدية.

ولد فؤاد حداد عام ١٩٢٨، وكما يقول حسن حداد فى مقدمة طبعة قصور الثقافة عام ٢٠٠٤، وهى ٨ أجزاء تضم دواوينه الشعرية فقط: «كان فؤاد حداد منذ طفولته يريد أن يصبح شاعرًا، ولما سُئل عن السبب أجاب: لأساعد الناس حتى تصير حياتهم أفضل.. فالشعر عنده ليس موهبة أو هواية فقط بل مبدأ والتزامًا أخلاقيًا واجتماعيًا وتطويرًا مستمرًا، وقد اختار العامية لغة البسطاء ليكون منهم ومعهم دائمًا».

وقد بدأ حداد نشاطه الأدبى بالتزامن مع نشاطه السياسى عام ١٩٤٤ وهو تلميذ بالمدرسة، وقد كان ينشر قصائده فى الدوريات الأدبية والجرائد الحزبية، ولهذا عندما صدر ديوانه الأول عام ١٩٥٢ كان يمثل ثورة على الاحتلال الإنجليزى وعلى الملك معًا، وقد صدر باسم «أحرار وراء القضبان» بسبب الرقابة، وصار عنوانه الأصلى «أفرجوا عن المسجونين السياسيين» عنوانًا لمقدمته، حيث يقول فى أقدم قصائده التى تحمل تاريخ فبراير ١٩٥٠:

«اشبع وجوّع يا نصير الإنجليزى

واظلم مدام الظلم فيك شىء غريزى

واقتل صلاح وقول لبيفن عزيزى»

وعلى الرغم من أن حداد لم يكن قد دخل المعتقل بعد؛ لكنه كان بارعًا فى وصف السجن بدقة بالغة، حيث يقول:

مسجون أسير أربع حيطان

فى مكان تلمه العين فى ثانية وتحدفه

ضيق ولكن للهموم أوسع مكان

تقضى النهار تستكشفه

فى سجن مبنى من حجر

فى سجن مبنى من قلوب السجانين

قضبان بتمنع النور والشجر

زى العبيد مترصصين

وعلى الرغم من براعة الصورة الشعرية فى المقطع السابق؛ فإنها تبدو لوحة لفنان بارع يقف خارج المشهد عند مقارنتها بما كتبه حداد بعد دخوله السجن بالفعل، حيث استوعب الشاعر التجربة عاطفيًا فخرجت أكثر رهافة وسخونة، حيث يقول فى قصيدة «الطرد» الذى أتى إليه فى سجن العزب يحمل رائحة الأسرة التى يشتاق إليها وتشتاق إليه:

عرفت ريحتك وعرفت ذوقك

جيتنى حمامة، وكان قلبى طوقك

حطيت وقلبى اللى حط فوقك

لما فتحتك قام قلبى طاير

من كتر شوقى وكتر شوقك

طلعت كمام القميص تشاور

وإذا كان ذلك هو الحال داخل سجون الملك، فإن الحال خارجها لم يكن أقل سوءًا، حيث يقول حداد فى قصيدة أخرى بالديوان نفسه:

أعرف صديق إنسان تصور

كان فى الزبالة جعان يدور

على لقمة أخطأها العفن

ويبدو أن معاناة حداد قبل الثورة كانت شديدة الوطء على نفسه وعلى المصريين جميعًا، حتى إنه ظل يذكرها بعد سنوات عديدة، وقد كرر حديثه عنها، على سبيل المثال، فى موال للمسحراتى يقول فيه:

يا حضرة الباشا فاكر ياما سحرتك

ودمعى تحت القمر بالليل مسح حارتك

وقلت لك خلى قطفة لك وقطفة لى

وربنا يخلى أطفالك وأطفالى

ولا كنت بتصلى يا باشا ولا بتصوم

غير كل حبة على السبحة تقول مخصوم

ولهذا لم يكن غريبًا أن يكون فؤاد حداد هو أول الشعراء الذين احتفوا بالثورة التى عاش يحلم بها قبل أن تتحقق، حيث قال فى أغسطس ١٩٥٢ فور قيام ثورة ٢٣ يوليو:

ما رضيتش أعيش من غير عيون وودان

ما رضيتش أعيش من غير فؤاد ولسان

سجنونى

ليه قلت طرد الطاغى فى الإمكان

ليه قلت هان الطاغى قبل ما هان

سجنونى

كان صدقى بيفن عمرو إيدن كان

عهد الضلام والبغى والطغيان

كان شعبى مسجون، كان فاروق سجان

وعلى الرغم من أن فؤاد حداد قد تنبأ بثورة يوليو وسعى من أجلها وساندها فور قيامها؛ فإن كل هذا لم يشفع له فى الإفلات من المعتقل الذى دخله مرتين طويلتين؛ الأولى من ١٩٥٣ إلى ١٩٥٦ وأفرج عنه خلالها لمدة شهرين فقط عام ١٩٥٤، والثانية من أبريل ١٩٥٩ إلى أبريل ١٩٦٤، وذلك بتهمة الشيوعية التى كان ينتمى إليها حزبيًا، ويعبر عن أفكارها فى أشعاره الساحرة التى تنتشر بين الجموع انتشار النار فى الهشيم، فتصير أشد فتكًا من أعتى المنشورات السياسية:

المطرقة ناحت على السندان

اتقسمت كتل الحديد قضبان

الرأسمالى بيملك الآلة

الرأسمالى بيسجن الإنسان

الرأسمالى بيملك الآلة

أغلال على استغلال على بطالة

يجعل حياتك يا فقير عالة

ويموتك ويبيع لك الأكفان

لكن سجن عبدالناصر لـ«فؤاد حداد» لم يمنعه قط من تغيير مشاعره نحو تأييد مبادئ الثورة التى هى أقرب ما تكون إلى الاشتراكية، مقارنة بما كان قبل ١٩٥٢، ولهذا لم يكن غريبًا أن يحتفل بعيدها العاشر من داخل المعتقل، حيث قال:

والميه بتمد تمدن

والعلم بيعدى يعدن

حتى الصحارى بتفدن

وكلنا شعرا وأنفاس

بلادنا خدا على خد

بضلع ريشة وقبضة فاس

وصلب آله بتدندن

كما أنه لم يكن غريبًا أيضًا أن يشارك مع الجموع التى خرجت فى ٩ و١٠ يونيو ١٩٦٧ لمطالبة عبدالناصر بعدم التنحى، فهو مَن أجج روح القومية العربية، ولا يمكن لحداد أن يسلم بهزيمة حلمه بتحرير فلسطين عند أول منعطف، فخسارة معركة لا تعنى خسارة الحرب:

أكبر قلب يا قلب الوالد

كلنا خالد.. رايح فين؟

إحنا نشيلك جوه العين

كما أنه لم يفته رثاء عبدالناصر فى ديوان كامل يتألف من قصيدتين طويلتين، يقول فى إحداهما:

مع السلامة يا والد يا أحن شهيد

آدى الرقابى ودى الأعلام بتتنكس

فين طلتك فى الدقايق تسبق المواعيد

والابتسامة إللى أحلى م السلام بالإيد

أؤمر لى بحقوقى وهدوم الولاد فى العيد

والمجانية ومرايل بيضا والأناشيد

فعبدالناصر بالنسبة لفؤاد حداد لم يكن شخصًا ليكرهه، بل كان حلمًا بالتحرر من الاستعمار والملكية، وأمنية بانتصار الاشتراكية على الطبقية، وطموحًا إلى وحدة عربية قومية تحرر فلسطين. إنه كان مصداقًا لعدة مبادئ وهب حياته من أجلها ولا يسمح بالتفريط فيها مطلقًا، لكنه يتسامح بقلب نبى مع كل من ظلمه فى سبيل تحقيقها.

ويقودنا الحديث عن عروبية حداد التى ظهرت مبكرًا جدًا، حيث يقول فى قصيدة «أعمال الثورة» ضمن ديوانه الثانى «بقوة الفلاحين وقوة العمال»:

آه يا عرب يا عرب بهجة

يا خضر فى الصحرا الواهجة

أنفاسى فى دروبكم ناهجة

يا معجزة رحمة وكتاب

لسان بنى آدم مهجة

قبلت من مصر الأعتاب

وشربت من مصر اللهجة

إلى الحديث عن علاقته باللغة الفصحى، حيث يحدثنا حداد عن خلفيته الثقافية فى الحضرة الرابعة من ديوانه «فى الحضرة الزكية»، والتى تحمل عنوان «هذا لسان عربى مبين»، فإذا بها تراث فصيح:

أنا يا نبى عارف بيوت الحى

من حبذا ريح الولد

ريح الخزامى فى البلد

للنابغة وزهير وحاتم طى

ولمطلع القرن الخمستاشر

لغة العرب فى قلبى تضوى ضى

لغة العرب هى إللى بتزود

فى كل ليلة عندنا القنديل

ولا يمكن على المستوى الموضوعى إغفال الإشارة إلى التجربة الصوفية المدهشة لحداد فى ديوانيه: على أعتاب الحضرة الزكية الذى كتب ١٩٧٦، وأذيع فى البرنامج العام ١٩٨٠، ونشر لأول مرة ١٩٨٧ بعنوان «أهل الأمانة»، وديوان الحضرة الزكية الذى كتب خلال عامى ١٩٨١ و١٩٨٢.

لكن الذى يهمنا هنا هو التجربة اللغوية الفذة فى هذين الديوانين، والتى تتمثل فى دمج الفصحى بالعامية، وتصل إلى تضمين آيات من النص القرآنى الفصيح داخل القصائد العامية، حيث يقول مثلًا:

قالوا سنة نعبد إلاهك سنة

تعبد إلاهنا قسمة بالعدل

الله أنزل كل قول فصل

الرحمة مش للبيع ولا للهزل

أمر النبى وأوحى له بالآية

بالكلمة تقطع زى حد السيف

بيننا وبين الكافرين للأبد

يا مجمعين الشمل فى الحضرة

نسجد كما سجد النبى ونقول

«قل يا أيها الكافرون

لا أعبد ما تعبدون»

وقد استطاع فؤاد حداد هنا دمج الآيتين القرآنيتين الفصيحتين داخل النص العامى ببراعة مدهشة عبر وسيلتين، الأولى دلالية: وتتمثل فى السياق الدينى الذى تحدث خلاله عن مناسبة نزول النص القرآنى وحكمه، مستخدمًا معجمًا دينيًا «النبى الوحى الآية الكافرون الحضرة السجود»، والأخرى فنية: تتمثل فى صياغة بعض أبيات مقطعه الشعرى فى لغة فصيحة، فكان النص القرآنى الفصيح فى ختام المقطع الشعرى العامى بمثابة الرأس فى بدن واحد حى.

وقد تخطى حداد حدود هذا المزج اللغوى داخل القصيدة الواحدة إلى كتابة دواوين كاملة بالفصحى، وكان أولها الديوان القصيدة «الحمل الفلسطينى»، التى كتبها بمناسبة إطلاق جندى إسرائيلى النار على الموجودين بساحة المسجد الأقصى فى ١٢ أبريل ١٩٨٢، مرورًا بديوان «طيوف الجنة والكوثر»، ووصولًا إلى تجربتين شعريتين تحتلان الجزء التاسع من الأعمال الكاملة وعنوانه: «مرآة الصوت»، بما يتفق مع طبيعة تجربتهما.

يحمل الديوان الأول عنوان: «يوميات العمر الثانى: ديوان أم نبات»، ويكتب الشاعر على غلافه الداخلى: «حققه: فؤاد حداد»، ويؤرخه قائلًا: «أوراق ترجع إلى عام ثمانين، عاد إليها الشاعر والمحقق بعد ثلاث سنوات، فما زاد عليها إلا بعض العناوين. ويقول فى بدايته: «أم نبات كنيتها التى اشتهرت بها وإن لم ترزق ولدًا بهذا الاسم. دعيت كذلك تيمنًا واستبشارًا بالخضرة والربيع، أو وصفًا لما يؤثر عنها من النجابة والإنجاب، أو نقلًا عما يجىء فى خواتم حواديت ستى وحكايات ألف ليلة وليلة حين يقول الراوى: وعاشوا فى تبات ونبات، وخلفوا صبيان وبنات». حيث اختلق الشاعر شخصية تراثية حقق أعمالها وقدم أشعارها وقام بشرحها، ولا يتوقف شاعرنا فى ديوانه هذا الذى يمزج فيه بين الشعر والنثر، وبين الماضى والحاضر، عن السخرية المُرة من المحققين والنقاد المعاصرين الذين يهدرون جهدهم فيما لا طائل من ورائه.

أما الديوان الثانى فيحمل عنوان: «شرح ديوان: لست الأراجوز»، ويصدره بقوله: «شرح ديوان لست الأراجوز، الشهير باسم لسان الفضيحة، الدارج ابن الفصيحة، من أبناء الزمن الثانى، صنعه ابن حداد المتوفى، عن مخطوط فى الذاكرة». وتجربة هذا الديوان وخصائصه الفنية قريبة الشبه جدًا من الديوان السابق، وإن كان كلا الديوانين يمثل تجريبًا إبداعيًا مدهشًا.

وتجدر الإشارة فى هذا السياق إلى أن استخدام فؤاد حداد النثر فى قصائده ليس حكرًا على الدواوين الفصيحة فقط، بل يمتد إلى قصائد العامية أيضًا، وهذا يتجلى بوضوح فى ديوانيه: «كليم الشيخة أم الآه» و«ريان يا فجل». كما تظهر بوادره فى قصيدة «أول مايو» التى أنشدها فى سجن الواحات أول مايو ١٩٦٣، حيث يقول على سبيل المثال:

«يا أول مايو عيد الورد والعمال مش كنت فى مبدأك يوم الشهيد، مش كنت ليل باكى، محزون فى طرحة أرملة، متعشى لقمة يتيم، صبحت يوم الغضب، يوم الاحتجاج، يوم العلم فى الطريق، صبحت يوم الكفاح وصبحت يوم النصر».

ففؤاد حداد هو رائد قصيدة النثر العامية، وهو يا للغرابة أيضًا رائد شعرية التداعى الصوتى، حيث يقول على سبيل المثال:

خالاتى عماتى سيداتى

على تل عجوة وعسل وسمن

ولا مجلس الأمن سهرانين

لت وعجين

يبنوا الهرم

قالت حماة المحترم

يا كعك يا سيد الكرم

نبطلك فى المشمشى

يا بنت قومى وفرفشى

لا تحوشى، ولا تختشى

إحمى الوابور واستحمشى

إشى وإشى.. تلاقيه مشى

إشى نغبشى.. واشى حبشى

واشى دندشى.. واشى انقشى

واشى ينحشى.. واشى رشرشى

سكر عليه

وعلى الرغم من سيطرة موسيقى التداعى الصوتى على المقطع السابق، فإن انسياب المعانى والصور يجعل هذه الكلمات تبدو وكأنها الوحيدة القادرة على التعبير الأمثل عن المعنى فى هذا السياق.

إنه والد الشعراء فؤاد حداد: الشيوعى المتصوف، والمصرى القومى، والعامى الفصيح، والتراثى المجرب، والوزّان الناثر، والمحلى المستشرف آفاق الإبداع العالمى.