رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أن نثق بما نراه.. كيف غيرت الفوتوغرافيا حياتنا (تذكر.. يجب أن تموت)

أكتب من مواجهة مخاوفي الشخصية وتساؤلاتي حول الحياة والموت، أنا القادمة من ثقافة تعتبر للموت حرمة لا يجب أن تنتهك بحال من الأحوال، أنا نفسي أشعر بجلاله وقدسيته وأترك الحزن يمر أيا ما تحطم تحت وطأته.. لكننا في عالم بصري يزدحم بالصور، وأخبار الحرب والأوبئة والمرض في كل مكان، الموت يحاصرنا منذ عامين تقريبا، قديما كان تصوير الموتى من طقوس الحداد، الآن نحن نخفي الموت، ونحجم عن الحديث عنه، ونميل إلى كبت مظاهر الحزن مراعاة للمظاهر بدعوى المضي قدمًا في الحياة.

اليوم نطرح معا تساؤلات في محاولة للفهم: ما هو دافع شخص للاحتفاظ بصورة شخص ميت؟ هل الاحتفاظ بذكرى الأحباء للأبد فكرة تريحنا وتجعلنا نتقبل الحزن؟ وكيف تحولت الصور من فكرة مقبولة لمستهجنة ومروعة خاصة عندما يكون الموت في كل مكان حولنا؟، فلماذا نخاف من صور ما بعد الوفاة لأشخاص عرفناهم وأحببناهم؟ إلى أي مدى يكون التقاط صورة لشخص ما بمثابة استجابة لخوفنا من الموت؟

خلق الفيكتوريون علاقة فريدة مع الموت، نظرًا لأنهم ماتوا صغارًا، متأثرين بالأمراض قبل أن يساعد الطب الحديث على علاجها، كانت الحياة الفيكتورية مليئة بالموت، لقد أثرت الأوبئة مثل التيفود والكوليرا على البلاد، وابتداءً من عام 1861، بأمر ملكي، صارت ثقافة الحداد مألوفًة، وابتكرت طقوس حزن متقنة، فكان من المعتاد إقامة طقوس معينة لإحياء ذكرى الموتى، وشمل ذلك ارتداء ملابس حداد مخصصة أو الامتناع عن التواصل الاجتماعي لفترة معينة.

خلال القرن 19، كان من الشائع أن يكون هناك مصور يلتقط صورة أخيرة لأحد أقاربه المتوفين، في هذا الوقت في عام 1849 وصل معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة إلى 33% في بعض مناطق لندن، ولم يكن هناك الكثير من الوقت لالتقاط صورة للطفل قبل وفاته فكانت العائلات تصوّر المتوفى.

العائلة بالكامل تجلس حول طفل (متوفي ) في وضعية النوم

التصوير الفوتوغرافي بعد الوفاة «Post-Mortem Photography» أو«memento mori» التي تعني حرفيا تذكر يجب أن تموت، هو ممارسة التقاط صورة للمتوفى حديثًا، وهي ممارسة شائعة بدافع الحب، وكشكل من أشكال الحداد والتذكر في كل من الثقافتين الأمريكية والأوروبية، اكتسب هذا النوع قوة جذب في منتصف القرن 19 بعد اختراع  طريقة داجير Daguerreotype.

كانت الصور بعد الوفاة عملية مدروسة، مع بذل الكثير من الجهد في كل شيء بدءًا من الملابس التي كان يرتديها الموتى لبيئة التقاط الصور، وصعوبة التعامل مع التغيرات التي تطرأ على الجسم.. كان الفيكتوريون يجلسون موتاهم أو يدعمون وقوفهم بواسطة أعمدة لجعلهم يبدون على قيد الحياة، وصُنعت أقنعة الموت من الشمع، وصار توريد وجنات الموتى وتزينهم بالورود والمجوهرات فعلا شائعا.. في الصور المرعبة والمؤثرة تقف العائلات مع الموتى، ويبدو الأطفال نائمين، والشابات المتزينات أنيقات، المرض لا ينهي حياتهن فحسب، بل يزيدهن جمالا.

تجلس الفتاة الصغيرة على كرسي بحيث يختفي الجهاز الذي يدعمها.

يري جاي روبي، عالم الإنثروبوجيا في تحليله أوضاع المتوفى، أن الأوضاع الرئيسية تعكس المواقف الثقافية، ثمة هيمنة لوضع (النوم الأخير) في الأربعين عامًا الأولى لتصوير بعد الوفاة، إذ تغلق عيون المتوفى ويستلقي كما لو كان في حالة راحة، وهو ما يعكس الرغبة الأمريكية في ربط الموت بالنوم.. وضع شائع آخر هو جلوس المتوفي على كرسي أو اختيار وضعية تجعله يبدو على قيد الحياة، لأن هذه الصور ستكون بمثابة آخر حضور حي له. 

وقت التعريض الطويل في هذه الفترة يعني أن المتوفى غالبًا ما كان مركزًا مقارنةً بالأحياء غير الواضحين

تظهر بعض الأمثلة المتأخرة جدًا المتوفى في نعش مع مجموعة كبيرة من الحاضرين في الجنازة، كان هذا النوع من الصور الفوتوغرافية شائعًا بشكل خاص في أوروبا وأقل شيوعًا في أمريكا.

إن الطريقة التي صور بها الفيكتوريون واقتربوا من مفهوم وحقائق الموت تسلط الضوء على التناقض مع المواقف الغربية الحديثة تجاه الموت.. نميل في الثقافة الشعبية المعاصرة إلى الابتعاد عن الصور التي تصور الموتى، خاصة عندما يكون المتوفى أحد أفراد الأسرة، الموت هو الحدث الوحيد الذي لا مفر منه في حياة شخص ما، ورغم ذلك نتحشاه. 

إلا أنه قد يصدم الكثير أن هذه الصور لا زالت تلتقط حتى اليوم رغم كل ما يدور عن حرمة الموت.. التقط الفنانون صور الموتي منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وما زال مستمراً حتى يومنا هذا، وهو شائع في أمريكا بين النساء اللواتي عانين من ولادة جنين ميت.. يقدم موقع "Now I Lay Me Down To Sleep" صور الأطفال المتوفين  لإحياء ذكراهم مع أمهاتهم.

في العصر الحديث نقترب أكثر من تجربة آل إدموند الفنية، تقول روزا (Rosa Harris Edmonds): «عندما توفي شقيقي جوشوا كان من المستحيل بالنسبة لي تصويره لأنني كنت أشحن كل طاقتي العاطفية لفهم ما يحدث ولا مجال للكاميرا».

في محاولة للتصالح مع الخسارة قامت العائلة بجمع كل صوره حيا، بين عشية وضحاها أصبح الشخص مجرد صور تذكارية، مع مرور الوقت، اكتسبت هذه الصور أهمية أكبر، فاستخدمت مرات عدة في حفلات الذكرى، وتم إعطاؤها للناس كهدايا، وأصبحت  الصور هنا رمزًا لحياة شخص، وتُلتقط الصور للاحتفاظ بالذكريات والعلاقات، لكن عند الموت تُلتقط صور لإحياء الشخصية كنفخ الروح مرة أخرى ربما لنفهم ولنحمي عقولنا من الانهيار.

 

استخدمت الصورتان كتذكار للناس لوضعها في محافظهم وعلى جدرانهم لتذكر جوش

تستطرد روزا: "كنا نستخدم صوره كوسيلة لإبقائه على قيد الحياة، منحتنا الصور شعورًا بالرضا من خلال إظهار تكرار مرئي دقيق لأخي وهو حي، لكن في نفس الوقت تذكرنا دائمًا بأنه لم يعد حيا".

بعد أسابيع قليلة من استلام رماده من محرقة الجثث، بدأ والد جوشوا في مشروع فوتوغرافي ليكون شاهدا له، نشر هذا المشروع بعنوان (RELEASED)، وبدأ بتصوير رماد جوش ونثره في الهواء مصورا غيوم الغبار.

وضع الرماد فوق صورة جوشوا وهو ما شكل أفكارًا متضاربة، جوشوا نفسه ينظر لرماد جسده، ما يضعنا في وهم يجعلنا نعتقد أنه لا يزال على قيد الحياة، لكن الرماد يخبرنا أنه مات بالتأكيد.

في الصورة الأخيرة أراد والد جوشوا أن يجد طريقة لعمل صور تعكس بدقة إحساس الحداد الممتد، فقام بطباعة صورة لجوشوا باستخدام تقنية القرن 19 (anthotypes) ثم دمج هذه الصورة الحمراء مع الرماد.. لا توجد طريقة للاحتفاظ للأبد بالصورة فهذا النوع من الطباعة في وقت ما سيتلاشى وبمرور الوقت سيكون كل ما تبقى هو رماد جوشوا.

تقول روزا: "كل ما سيتبقى هو كل ما تبقى، كان والدي قادرًا على استخدام الرماد كمادة إبداعية وخلق صور جميلة ليس فقط للأشخاص الذين يعرفون جوش، ولكن أيضًا للعديد من الأشخاص الذين لم يعرفوه.. لقد سمح لهم بالدخول لهذا الجزء الخاص من حياتنا العائلية من خلال مشاهدة رماد جوش الفعلي كقطعة فنية".

تلتقط  الصور لحظة من الزمن، لكنها ستظل دائمًا متجاوزة موضوعها والزمن، ستظل الصور تثير أحاسيسنا وأفكارنا وتزيد ضربات قلوبنا. 

(يتبع)