رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأدعية الدينية من التمائم والأحجبة إلى «السوشيال ميديا»

فى جوانب معينة لم يبرح العقل الدينى الشعبى عتبة القرن التاسع عشر حتى اللحظة، يظهر ذلك عند النظر فى كيفية توظيف الآيات القرآنية والأحاديث والأدعية الدينية بين أهل مصر أوائل القرن قبل الماضى، وخلال العصر الذى نحيا فى ظلاله. فبعد عصر كانت تُستخدم فيه الآيات والأحاديث والأدعية فى إعداد التمائم والأحجبة لحماية وحفظ الفرد أو جلب الرزق، باتت تُستخدم بالمعانى نفسها، ولكن على هياكل السيارات بدلًا من حوائط البيوت، وعبر مواقع التواصل الاجتماعى بدلًا من التعليق فى الصدر أو دفسها تحت العمة.

يحكى «وليم لين»، فى كتابه «المصريون المحدثون»، أن المصريين اعتقدوا أوائل القرن التاسع عشر بالتمائم والأحجبة، واشتغل بكتابة هذه التعاويذ جميع معلمى الكتاتيب فى القرى تقريبًا، وكانوا يحفظون مجموعة من الصيغ الثابتة التى يكتبون بها الأحجبة والتمائم، ويتألف معظمها من آيات قرآنية وأسماء الله الحسنى مع أسماء الملائكة والرسل والأولياء، وكان من يحملها يتوهم أن لها قوة خفية عظيمة يمكن أن تحميه من ابتلاءات الحياة وأزماتها.

ولو أنك تأملت «أيام طه حسين» فستجد أنه حكى أن قرية «الكيلو» التى ضربها وباء الكوليرا فى طفولته فزع أهلها أشد الفزع، وانطلق شيح الكتّاب الذى كان يتولى تحفيظ أطفال القرية- ومن بينهم طه حسين- إلى صنع الأحجبة، وأخذ يبيعها لمن يريد أن يحمى نفسه من «الشوطة» مقابل ثمن معلوم، وبالطبع لم تحفظ الأحجبة أحدًا ممن شاء الله تعالى أن يصابوا بالوباء، بمن فيهم صانع الأحجبة نفسه حين سقط وهو يبيع بضاعته صريع الكوليرا.

ذهب الخيال بالمصريين كل مذهب خلال القرن التاسع عشر فى نظرتهم إلى قيمة الأحجبة والتمائم وكتابة الآيات القرآنية على أبواب البيوت والدكاكين، وفوق حوائطها، فهى تحمى من الحسد وتدفع النفس إلى الطمأنينة والتحرر من الخوف وتجلب الرزق، بل تحمى من الأمراض حين تشيع، وتشفى منها حين تُصيب.. اعتقد بشر هذا الزمان أيضًا بأن كتابة أسماء المولى، عز وجل، التسعة وتسعين فى ورقة يحملها الشخص تجعله محلًا لرعاية الصفات الجليلة للخالق، وتبعد عنه كل مصيبة ووباء، وتحفظه من الحسد والحريق والدمار والقلق والحزن والضيق وكل الشرور التى يمكن أن تصيب بنى آدم. 

ومن اللافت أن مصر عرفت خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين كتابات شبيهة، حيث كان يفاجأ أحدهم أو إحداهن بتلقى رسالة مكتوبة- قبل ظهور البريد الإلكترونى والماسنجر- يحكى صاحبها أنها جاءته وكتب ما فيها من آيات وأحاديث وأدعية وطلب من أرسلها إليه أن يرسلها بالتبعية إلى عشرة ممن يعرفهم، وسوف يرى نتيجة ذلك فى حياته، فيزيد رزقه وتصفو نفسه ويشعر بالسعادة والطمأنينة، ويطلب من الشخص الذى أرسلها له أن يفعل مثله ويرسلها إلى ١٠ أشخاص.

المضحك أن الفكرة نفسها يعاد إنتاجها لكن فى شكل عصرى يتسق مع ما أتاحته تكنولوجيا التواصل الاجتماعى من أدوات، فتجد من يبعث لك على الماسنجر رسالة تقول: «مَنْ قال لا حول ولا قوة إلا بالله عدد كذا من المرات يُصبه كذا من الخير»، أو «شارك فى حملة المليون صلاة على الحبيب المصطفى»، صلى الله عليه وسلم، أو «أرسل هذه الرسالة إلى ١٠ من أصدقائك وسوف ترى الخير الذى يصيبك»، يضاف إلى ذلك التدوينات التى تدعوك إلى ترديد آيات قرآنية معينة لجلب الرزق، وأخرى لإذهاب الضيق والحزن، وثالثة للحفظ من الوباء، ورابعة لحفظ أحبابك وأفراد أسرتك.

عادة كتابة الآيات القرآنية على أبواب البيوت أو الدكاكين والمحلات هى التى تراجعت نسبيًا، ولم يحدث هذا التراجع نتيجة تغيير ثقافى يدعو إلى التعامل العقلانى مع مثل هذه المسائل، ويتفهم أن كتاب الله الكريم ليس مادة للتبرك أو المتاجرة على البشر المأزومين أو المهزومين بحلول وتحولات تقع فى حياتهم، التراجع حدث بالأساس لأسباب اقتصادية، فالبيوت تحوّلت إلى أبنية حديثة وأبراج وفيلات وقصور، والمحلات توسعت وامتدت وتحولت إلى مولات كبرى، وبدأ أصحابها يتعاملون مع الفكرة القديمة بأداء جديد، فبدلًا من كتابة آيات القرآن على الواجهات والجدران، أصبح القرآن يُتلى فى هذه الأماكن آناء الليل وأطراف النهار عبر محطات الراديو وقنوات التليفزيون، فى وقت يكون الكل منشغلًا فيه بالبيع والشراء، وما أندر أن يعطى أحد أذنه لينصت إلى آيات الذكر الحكيم.

وإذا كانت كتابة الآيات والأحاديث والأدعية على أبواب البيوت والمحلات لم تعد شائعة، كما كانت عليه الحال خلال القرن التاسع عشر، فقد أصبح محلها منذ عقود من الزمن زجاج وهياكل السيارات والميكروباصات والتكاتك، وهى لا تختلف كثيرًا عن العبارات التى سجلها المصريون على حوائط البيوت والدكاكين فى الماضى، منها على سبيل المثال: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله.. قل أعوذ برب الفلق.. قل أعوذ برب الناس.. الصبر طيب.. يا عين صلى ع النبى.. ربنا موجود.. تبارك الرحمن.. الذنوب تغضب علام الغيوب.

وخلال الفترات التى نشطت فيها جماعات الإسلام السياسى تم استحداث طريقة جديدة لكتابة هذه العبارات، فكنت- وربما ما زلت- تجد أسماء الله الحسنى- التى كانت تكتب زمان فى حجاب ورقى- مكتوبة على مجموعة من اللوحات الصغيرة المعلقة على أعمدة النور على طول الطريق، حتى يأتنس بها ركاب المواصلات وقائدو السيارات..إنها ذات الفكرة، لكنها تظهر بتجليات مختلفة تبعًا للأدوات المتاحة فى كل عصر، لكن يبقى أن الآيات القرآنية والأحاديث الكريمة التى تلف المصريين من جميع الاتجاهات، فى البيوت والشوارع والمحلات والمولات والراديو والتليفزيون وغير ذلك، لم تثمر الأثر المرجو فى أخلاقياتهم.. فما أكثر ما يسمع الناس أو يقرأون هذا الكلام الطيب بألسنتهم دون أن تتسرب معانيه إلى قلوبهم لتنعكس فى مرحلة تالية على سلوكهم.

إن أكثر آية يسمعها المصريون فى كل صلاة جمعة ويحفظها الكثيرون عن ظهر قلب هى قوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون»، ولك أن تبحث عن نسبة من يعملون بالمعانى الجليلة التى اشتملت عليها داخل المحيط الذى تعيش فيه: العدل والإحسان وصلة الرحم.. أين هى؟