رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ذكرى طه حسين

مرت بنا منذ أيام ذكرى مهمة فى تاريخ الفكر المصرى، بل دعنى أقول الفكر العربى المعاصر، إنها ذكرى وفاة عميد الأدب العربى «طه حسين»، ويحتار المرء عند الحديث عن هذا العملاق، لكنى سأبدأ من التجربة الإنسانية له كطفل صغير فقد بصره، يعيش فى قرية نائية فى محافظة المنيا، بعيدًا عن العاصمة، لا يستسلم هذا الصغير لقدره ويتمرد عليه؛ إذ أدرك مبكرًا أن التعليم هو أداة تغيير أيامه القادمة، وأيام الوطن.

طفل صغير، كفيف البصر، فى قرية نائية، القدر يقول إن أقصى آمال هذا الطفل أن يصبح مقرئ القرية، أو ربما إمام المسجد، لكن هذا الطفل لا يستسلم، بل يصنع قدره بيده، لا أحد فى قريته كان يتصور أن هذا الطفل سيرحل إلى القاهرة الساحرة، وفى القاهرة يبدأ هذا الطفل خطوات صناعة مجده، الذى هو أيضًا مجد الوطن، لا يكتفى بدراسته فى الأزهر، بل يتمرد من جديد على قدره، ويلتحق بالجامعة الأهلية الوليدة، هذه الجامعة التى كانت حلمًا للحركة الوطنية المصرية فأصبحت حقيقة، وخطوة جديدة على طريق الحداثة المصرية.

ولأن طالب العلم لا يشبع، ولأنه الباحث عن الأفضل، تأخذه الأيام، أو يأخذ هو أيامه فى رحلة إلى فرنسا. من كان يتصور أن هذا الطفل الكفيف التلميذ فى عزبة الكيلو فى المنيا، سيتخرج يومًا من جامعة السوربون العريقة، ليعود إلى جامعته فى القاهرة بدكتوراه الدولة، ليبدأ مرحلة جديدة فى تاريخه وتاريخ الوطن؟

سيرتبط اسم طه حسين بالجامعة المصرية، هذه الجامعة التى دخلت مرحلة جديدة بعد ثورة ١٩١٩، وإعلان المملكة المصرية؛ إذ تحولت الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية تشع نور المعرفة ليس فى مصر فحسب، بل فى ربوع الشرق العربى، وبعد سنوات قليلة يعتلى طه حسين كرسى عمادة كلية الآداب، فى سابقة جديرة بالتمعن، كانت ببساطة تعنى أن مصر تستطيع.

وسيرتبط اسم طه حسين وأستاذه لطفى السيد بمعركة شهيرة، هى معركة استقلال الجامعة، أيام حكم الديكتاتور إسماعيل صدقى، وسيفقد طه حسين منصبه كعميد لكلية الآداب، ويقدم أستاذه لطفى السيد، رئيس الجامعة، استقالته احتجاجًا على عزل طه حسين، أو فى الحقيقة الاعتداء على استقلال الجامعة، وهكذا يقدم طه حسين درسًا جديدًا للأجيال القادمة حول استقلال الجامعة.

وتصبح معركة الثقافة والتعليم هى الشغل الشاغل لطه حسين، ويصدر فى عام ١٩٣٨ كتابه الشهير «مستقبل الثقافة فى مصر» الذى سيصبح بحق «مانيفستو» إصلاح الثقافة والتعليم؛ إذ يعلن طه حسين أن المعركة الحقيقية لمصر بعد حصولها على الاستقلال السياسى هى معركة الثقافة والتعليم، وأن هذا هو مستقبل مصر الحقيقى، والتحدى الأكبر لها، ويشترك طه حسين فى وزارة الوفد الأخيرة ليتمكن من تحقيق حلمه، ويتولى وزارة «المعارف العمومية»، ويبدأ برنامج الإصلاح الشامل للثقافة والتعليم، ويتوج ذلك بقراره بمجانية التعليم قبل الجامعى، ويعلن أن التعليم كالماء والهواء، إكسير للحياة.

هل ننسى المعارك الفكرية الشهيرة لطه حسين، والتى كان يطمح من خلالها إلى تحريك المياه الراكدة، وتأكيد حرية الفكر؟ هل نتذكر معركته الشهيرة مع كتابه المثير «فى الشعر الجاهلى» دفاعًا عن منهج النقد والشك وحرية التفكير والدعوة إلى انتماء مصر لثقافة البحر المتوسط، وأنه بذلك تصبح مصر قاطرة التقدم للمنطقة كلها؟ ومع تعقد الأزمة الاجتماعية فى مصر فى سنوات الأربعينيات يصدر طه حسين كتابه المهم «المعذبون فى الأرض» وتقوم الدنيا ولا تقعد، ويُتّهَم طه حسين بأنه «شيوعى»، وهو الليبرالى العتيد!

وأبى الأستاذ العميد أن يغادرنا إلا فى أيام جليلة؛ إذ يرحل فى أكتوبر ١٩٧٣، ومصر تعبر إلى المستقبل كما كان يطمح عميد الأدب العربى.