رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحرب الباردة بين واشنطن وبكين

أعلن وليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية «سى آى إيه»، الخميس ٧ أكتوبر، عن إنشاء وحدة متخصصة فى قضايا الصين باسم «مركز مهمة الصين»، معتبرًا، فى بيان رسمى خارج عن الوكالة، أن الصين أهم تهديد «جيوسياسى» تواجهه الكتلة الغربية فى القرن الواحد والعشرين، ما يستدعى ضرورة تعزيز العمل الجماعى عبر هذه الوحدة، كما أعلن «بيرنز» عن إنشاء منصب مدير التكنولوجيا فى وكالة الاستخبارات المركزية ووحدة مخصصة للقدرة التنافسية الأمريكية فى العالم.

يبدو من الخطوة الأمريكية، التى سبقتها خطوات أخرى، أن استراتيجية واشنطن لتطويق النفوذ الصينى على المستوى الدولى مستمرة، فى شكل ظهر معه أننا أمام «حرب باردة» جديدة ستكون أشرس وأقوى من الحرب الباردة فى القرن الماضى بين الكتلة الغربية بزعامة أمريكا والاتحاد السوفيتى، التى انتهت بهزيمة وتفتت الاتحاد، لكن الفرق هذه المرة أن الخصم الجديد، وهو «التنين الصينى»، أقوى بمراحل من الاتحاد السوفيتى، خاصة على المستويين الاقتصادى والتكنولوجى، فالصين هى الاقتصاد الثانى عالميًا بعد الولايات المتحدة الأمريكية، ومتوقع خلال ١٠ سنوات أن يتجاوز ناتجها القومى أمريكا وتكون القوة الاقتصادية الأولى فى العالم.

مسرح الأحداث والتفاعلات الدولية يعاد تشكيله من جديد، والمحرك الرئيسى فيه هو استراتيجية إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن لتطويق النفوذ الصينى المتنامى والمتصاعد، عبر إحياء التحالفات القديمة وإنشاء تحالفات جديدة على المستوى العسكرى والأمنى والاستخباراتى والتكنولوجى بين حلفائها فى أوروبا وفى آسيا، وهى استراتيجية تمثل قلقًا كبيرًا للصين بالمقارنة مع السياسات التى تبناها ترامب، التى اقتصرت على حرب تجارية ثنائية بين واشنطن وبكين، دون دخول حلفاء أمريكا التقليديين على خط المواجهة، كون أن شعار ترامب «أمريكا أولًا» أزعج الأوروبيين فى حلف الناتو وحلفاء أمريكا فى آسيا، خاصة اليابان وكوريا الجنوبية، الأمر الذى لم يمنع وقتها دولًا كبريطانيا وألمانيا، من قبول مبدئى بالتكنولوجيا الصينية 5G، وهو الأمر الذى أزعج واشنطن.

التركيز الأمريكى على آسيا بدأ مع إدارة الرئيس الأسبق «أوباما»، وتُرجم بشكل عملى مع الإدارة الأمريكية الحالية، التى تسعى جديًا لتغيير موازين القوى فى جنوب شرق آسيا ومنطقة المحيطين الهادئ والهندى، والتى تنامى فيها بشكل واسع النفوذ الصينى، واستبقت ذلك بتقليص الوجود العسكرى الأمريكى فى الشرق الأوسط ثم الانسحاب من أفغانستان، والذى إن ظهرت معه أخطاء تكتيكية، لكنه كان جزءًا من التوجه الأمريكى الجديد للتركيز على تقويض التهديد الصينى للمصالح الأمريكية.

استراتيجية بايدن تجاه الصين، وفقًا لصحيفة «وول ستريت جورنال»، تقوم على تعزيز المكانة الأمريكية فى المنافسة التجارية مع الصين عبر الاستثمار فى البنية التحتية والبحث والتطوير داخل أمريكا، مع دفع عجلة الإنتاج والتصنيع داخل الولايات المتحدة وزيادة مناخ الابتكار، خاصة أن كبريات شركات التكنولوجيا الأمريكية اتجهت منذ سنوات للاستقرار فى الصين، مدفوعة بحوافز اقتصادية وتوافر العمالة الماهرة وهو ما تفتقده السوق الأمريكية.. ثم يأتى الجزء الأهم فى استراتيجية بايدن، من خلال العمل مع حلفاء واشنطن على وضع ترتيبات تجارية جديدة تتعامل مع سمات النظام الصينى التى فشلت منظمة التجارة العالمية فى تقييدها على مدى ٢٠ عامًا.

يمكن حصر التحركات الأمريكية فى الشهور الأخيرة لمجابهة التهديد الصينى فى عدة أمور، أولها إنشاء إدارة بايدن، فى يونيو الماضى، وحدة خاصة داخل البنتاجون لتقييم التهديد العسكرى لبكين وكيفية الرد عليه، ثم فى أكتوبر الجارى إنشاء وحدة داخل المخابرات المركزية معنية بالصين، ثم الأهم وهو إنشاء تحالف عسكرى وأمنى «أوكوس» مع بريطانيا وأستراليا، والذى بموجبه تزود واشنطن «كانبيرا» بعدد من الغواصات النووية تساعدها فى مواجهة التهديد العسكرى الصينى فى منطقة المحيطين الهادئ والهندى، ثم نأتى لإحياء واشنطن التحالف الأمنى الرباعى المعروف باسم «كواد»، الذى أنشئ عام ٢٠٠٤، ويجمع أمريكا واليابان والهند وأستراليا، ويأمل بايدن من خلال كل هذه التحالفات فى تشجيع شركاء واشنطن التقليديين على العمل الجماعى لاتخاذ مواقف تتناسب مع التهديد الصينى للمصالح الغربية.

أمريكا تتهم بكين بالوقوف وراء العشرات من الهجمات السيبرانية ضد مؤسسات وشركات أمريكية، بجانب أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية ضبطت العشرات من عمليات التجسس العسكرى والصناعى فى السنوات الأخيرة، ففى تقريرها السنوى الصادر فى أبريل الماضى، ذكرت المخابرات الأمريكية أن سعى الصين لتصبح قوة عالمية يعد التهديد الأكبر للأمن القومى الأمريكى، وأشار التقرير إلى أن الحزب الشيوعى الصينى الحاكم سيكثف من جهود الحكومة بأكملها لتوسيع نفوذ الصين وتقويض نفوذ الولايات المتحدة، وإثارة الفرقة بين واشنطن وحلفائها وشركائها وتعزيز قبول نظامها الاستبدادى.

بالتأكيد التنين الصينى لا يقف مكتوف الأيدى أمام التحركات والتصعيد الأمريكى، فمع تعزيز وتعظيم قوتها البحرية فى بحر الصين الجنوبى لتأكيد النفوذ والسيادة، قامت، مع إعلان إنشاء تحالف «أوكوس»، بأكبر عملية توغل جوى فى أجواء تايوان بأكثر من ٥٠ مقاتلة حربية، وهو أمر لم يحدث منذ ٤٠ عامًا وفقًا لوزير الدفاع التايوانى.. أى نعم أن هذا التحرك الصينى أثار غضب واشنطن، واعتبرت على لسان أنتونى بلينكن أن الإجراءات الصينية تجاه تايوان تقوض الاستقرار فى المنطقة، لكن أيضًا بكين واضحة فى موقفها باعتبار جزيرة تايوان جزءًا لا يتجزأ من الأراضى الصينية، وهو ما أكد عليه السبت الماضى الرئيس الصينى «شى جين بينج» الذى حذر من أن الشعب الصينى لديه تقليد مجيد من رفض النزعات الانفصالية، وهو ما ترفضه تايوان التى ترى فى نفسها دولة مستقلة ذات سيادة.

الصراع والتنافس الأمريكى الصينى على النفوذ الدولى وزعامة العالم قد يأخذ سنوات بل عقودًا، وبلا شك سيؤثر بشكل كبير على الشرق الأوسط ومنطقتنا العربية التى تربطها علاقات ومصالح استراتيجية مع كل الأطراف، لكنها قد تجبر على الانضمام إلى أحد الأقطاب المتنافسة «أمريكا أو الصين»، وهو ما يستدعى الانتباه، والتفكير جديًا فى إحياء حركة عدم الانحياز، لتستعيد دورها فى الحفاظ على السلام والأمن فى العالم، وتبريد أى بوادر تصعيد بين واشنطن وبكين سيكون الجميع فيه خاسرًا.