رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تقدير موقف.. أسرار التحركات الإسرائيلية الأخيرة للتهدئة مع غزة ورام الله

التحركات الإسرائيلية
التحركات الإسرائيلية الأخيرة للتهدئة مع غزة

تواصل إسرائيل إجراء اتصالات مكثفة مع جيرانها، سواء مصر أو الأردن أو السلطة الفلسطينية، وعلى الرغم من أنها أمر معتاد نظريًا، فإنها تحمل هذه المرة رياح تغيير.

وأصبحت تل أبيب تُجرى مفاوضات شبه علنية مع حركة «حماس» وتوافق على تمرير الأموال إليها، وقبل هذا كله يلتقى وزير دفاعها، بينى جانتس، الرئيس الفلسطينى، محمود عباس «أبومازن»، ثم يلتقى رئيس الوزراء، نفتالى بينيت، الرئيس عبدالفتاح السيسى فى شرم الشيخ.

هل يمكن اعتبار هذه التحركات الأخيرة تغييرًا حقيقيًا فى السياسة الإسرائيلية حيال الفلسطينيين؟ أم أنها مجرد مواءمات سياسية مرتبطة بالنسق السياسى الحالى؟.. هذا ما تحاول «الدستور» الإجابة عنه فى السطور التالية.

ماذا حدث؟ لقاءات داخلية ودولية رفيعة المستوى.. وتسهيلات غير معتادة للشعب الفلسطينى

التقى الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيس الوزراء الإسرائيلى، نفتالى بينيت، الإثنين الماضى، ودار النقاش بينهما حول عدد من الملفات، على رأسها التهدئة فى غزة، وتولى مصر مسئولية إعادة إعمار القطاع بإجمالى استثمارات يصل إلى نصف مليار دولار.

ويعتبر هذا اللقاء هو الأول بين رئيس مصرى ورئيس وزراء إسرائيلى، فى مصر، منذ لقاء الرئيس الأسبق، حسنى مبارك، رئيس الوزراء الإسرائيلى السابق، بنيامين نتنياهو، فى ٢٠١١، بينما التقى «السيسى» مع «نتنياهو» فى ٢٠١٧، على هامش اجتماعات الأمم المتحدة.

قبل أيام من هذا اللقاء، التقى وزير الدفاع الإسرائيلى الرئيس الفلسطينى، وتناول الجانبان القضايا الأمنية والسياسية والمدنية والاقتصادية فى الضفة الغربيّة وقطاع غزة، ما أعطى انطباعًا عن إمكانية حدوث انفراجة فى مسيرة السلام، أو تغيير فى جمود الوضع الراهن على أقل تقدير.

وهذا أيضًا اللقاء الرسمى الأول من نوعه الذى يجمع وزيرًا إسرائيليًا كبيرًا مع «أبومازن» منذ ١١ عامًا، فعلى الرغم من لقاء «نتنياهو» الرئيس الفلسطينى وتصافحهما فى ٢٠١٥، كان اجتماعًا جانبيًا على هامش مؤتمر المناخ فى باريس.

بالتوازى مع هذه اللقاءات الحيوية والمهمة، تجرى إسرائيل محاولات لـ«احتواء قطاع غزة»-وفقًا لتعبير إعلامها ومسئوليها- فبعد ٤ ليالٍ من حوادث إطلاق البالونات الحارقة من القطاع تجاه الأراضى المحتلة، ترد تل أبيب بهجمات على مواقع عسكرية تابعة لحركة «حماس».

وبدأ التوتر مع غزة قبل ٣ أسابيع، تحديدًا منذ يوم السبت ٢١ أغسطس الماضى، عندما تظاهر آلاف الفلسطينيين بالقرب من السياج الحدودى بين إسرائيل وقطاع غزة، بدعوة من «حماس» وسائر الفصائل فى القطاع؛ إحياءً لذكرى إحراق المسجد الأقصى فى عام ١٩٦٩.

وخلال هذه التظاهرات، اشتبك مئات الفلسطينيين مع القوات الأمنية الإسرائيلية، وألقى المتظاهرون زجاجات حارقة وعبوات وحجارة على قوات الجيش الإسرائيلى، وأصيب أحد حراس الحدود إصابة بليغة؛ جرّاء إطلاق فلسطينى النار عليه من مسافة قريبة، عبر فتحة فى السياج، وبعد أيام معدودة فارق الحياة.

كما قُتل شاب فلسطينى وجُرح نحو ٤٠ آخرين بنيران الجيش الإسرائيلى، ومنذ ذلك الوقت تستمر عمليات إطلاق البالونات الحارقة من قطاع غزة فى اتجاه حقول المستوطنات فى منطقة الغلاف.

وعلى الرغم من هذه التوترات المعتادة، هناك ما يؤكد فكرة «الاتجاه الجديد» من قِبل إسرائيل تجاه «حماس» والسلطة الفلسطينية، مثل السماح بدخول بضائع كانت ممنوعة على غزة فى الماضى، على رأسها مواد البناء، وسيارات وشاحنات، وقطع غيار، وهواتف خلوية، إلى جانب زيادة صادرات القطاع من الزراعة والنسيج والأثاث.

«التسهيلات» تضمنت أيضًا عودة نطاق الصيد إلى ١٥ ميلًا، كما كان عليه عشية المواجهة العسكرية بين إسرائيل و«حماس»، فى مايو الماضى، المسماة داخل إسرائيل بـ«عملية حارس الأسوار»، إلى جانب الموافقة على دخول ١٨٠٠ عامل يوميًا إلى إسرائيل، مع وعد بزيادة العدد فى الأسابيع المقبلة، فضلًا عن إيجاد آلية لتحويل المال القطرى إلى القطاع عبر الأمم المتحدة. 

وهناك ما يبرر هذه «التسهيلات» لدى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، والتى ترى أن «تهرُّب إسرائيل من الوفاء بالالتزامات، وفى مقدمتها رفع الحصار عن غزة، سيؤدى إلى عودة التحركات الفلسطينية التى توقفت فى ٢٠٢١، ويدفع الفلسطينيين إلى المزيد من الأعمال التى لا يمكن توقّعها مسبقًا».

لكن التناقض لا يترك إسرائيل أبدًا، فكل ما سبق تزامن مع جملة من التحذيرات والتهديدات، عبّر عنها رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلى، أفيف كوخافى، الذى أعلن عن «الاستعداد لشن عملية عسكرية جديدة فى غزة».

وأضاف «كوخافى»، فى كلمة ألقاها خلال مراسم احتفال بوصول سفينة عسكرية جديدة متطورة وانضمامها إلى سلاح البحر الإسرائيلى: «لقد تحسّن الجيش، ويواصل تحسين قدراته الهجومية وخططه العملية فى قطاع غزة، وفى حال عدم استمرار الهدوء فى المنطقة الجنوبية، لن نتردد فى الخروج إلى معركة إضافية، إن تطلّب الأمر ذلك». وواصل موجهًا حديثه لسكان عزة: «واقع حياتكم يمكن أن يكون مختلفًا تمامًا، وأن تتحسن جودة هذه الحياة بصورة كبيرة، لكنها لن تكون بهذا الشكل إذا ما واصلتم أى نشاط إرهابى من أى نوع.. الهدوء والأمن يمكنهما تحسين شروط حياة المدنيين، لكن أعمال الشغب والإرهاب سيؤديان إلى ردٍ أو عملية عسكرية أخرى».

لماذا؟ الرغبة فى هدنة طويلة بتطبيق سياسة «الاقتصاد مقابل الأمن»

بالربط بين اللقاءات السياسية عالية المستوى سالفة الذكر، والتحركات على الأرض والميدان، يبدو أن إسرائيل اتخذت قرارًا بالعودة إلى التسوية الشاملة مع «حماس»، والمضى فى هذا الاتجاه خطوة إضافية، كما طلبت الحركة الفلسطينية قبل بضعة أشهر.

وما تريده إسرائيل قبل كل شىء هو «هدوء بعيد الأمد»، وفقًا للتقارير العبرية، التى ترى أنه «لا يمكن أن يحدث هذا إلا بعد صفقة تبادل للأسرى والمفقودين»، وهو ما تعول تل أبيب فيه على الجانب المصرى، الذى يقود هذا الملف بالتوازى مع ملفات الهدوء والتسوية وإعمار غزة.

وما من أحد فى الجيش الإسرائيلى و«الشاباك» و«الموساد» ومجلس الأمن القومى والحكومة الإسرائيلية يعرف بالضبط أن هذا ما سيجرى، لكن المؤكد أن «الهدوء» هو الخيار الأول، وأنه لا سبيل للوصول إليه إلا عبر مصر، والاستجابة لعدد من مطالب «حماس»، خاصة التى تتعلق بتحسين الوضع الاقتصادى فى قطاع غزة.

وتدور هذه الرؤية حول فكرة «الاقتصاد مقابل الأمن»، التى طرحها وزير الخارجية الإسرائيلى، يائير لابيد، كخطة جديدة للتعامل مع غزة، وهى فى الأصل لرئيس «الموساد» السابق، يوسى كوهين، وتقوم على أن «توفير إسرائيل الاستقرار الاقتصادى لقطاع غزة والحياة الأفضل لسكانه يؤدى إلى خفض دوافعهم للأزمات والحروب».

فى الوقت ذاته، تبرز مخاوف داخل إسرائيل من «ثمن» تنفيذ تلك الرؤية، فهناك من يرى أن إعادة الإعمار والتسهيلات الكبيرة لقطاع غزة ستعطى فرصة لـ«التنظيمات المسلحة الفلسطينية» لزيادة قوتها العسكرية، الأمر الذى سيؤدى، عاجلًا أم آجلًا، إلى مواجهة مقبلة، وبحسب التقارير العبرية، تعمل مصر على هذا الملف حاليًا، إلى جانب جهات دولية مثل الأمم المتحدة، من خلال محاولة ضمان وصول المساعدات إلى الشعب الفلسطينى.

ولا يقتصر الأمر على محاولة التهدئة مع «حماس»، فإسرائيل تحاول أيضًا التقرب من رام الله، وهو ما ظهر فى لقاء «أبومازن» و«جانتس»، ورغم أن الاثنين قالا إن اجتماعهما «شبه تقنى» لمناقشة قضايا أمنية واقتصادية فقط، ينطوى مجرد عقْده بصورة علنية على رسالة إيجابية ضد السياسة الرامية إلى تعزيز قوة حركة «حماس» على حساب السلطة الفلسطينية، التى تركها وراءه بنيامين نتنياهو، لتتجه إسرائيل بذلك إلى سياسة «التقرب من رام الله مع استمرار التهدئة مع حماس».

واتفق «أبومازن» و«جانتس» على «تعزيز التنسيق الأمنى»، وعلى سلسلة من الخطوات التى من شأنها «تخفيف الضائقة الاقتصادية فى مناطق السلطة الفلسطينية»، خاصة مع تحذيرات مبعوث الأمم المتحدة من أن السلطة الفلسطينية على وشك الانهيار اقتصاديًا، وذلك لعدة أسباب بينها قرار تل أبيب باقتطاع أموال من الضرائب الفلسطينية.

وبحسب تقارير عبرية، توصل «جانتس» و«أبومازن» إلى منح إسرائيل السلطة الفلسطينية قرضًا بقيمة ٥٠٠ مليون شيكل.

الغريب أن نفتالى بينيت سارع إلى التنصل من الاجتماع بين «جانتس» و«أبومازن»، خوفًا من ردود فعل اليمين الإسرائيلى، وقال فى لقاء مع صحيفة «يديعوت أحرونوت» إنه ضد حل الدولتين، واصفًا السلطة الفلسطينية بـ«الفاشلة».

كما صرح مسئول مقرّب من «بينيت» بأن «الاجتماع بين جانتس ومحمود عباس لا يبشر باستئناف عملية السلام مع الفلسطينيين المجمدة منذ فترة طويلة».