رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تحديث القوة الناعمة المصرية

 

كان الكاتب والصحفى الكبير الراحل «محمد حسنين هيكل» كثيرًا ما يتحدث عن القوة الناعمة المصرية ودورها الملفت بجانب القوة الصلبة فى جعل مصر تتفرد دونًا عن غيرها فى قيادة العالم العربى، الذى ظل لعقود ولا يزال يتأثر بالموروث الأدبى والفكرى والسياسى والفنى والإبداعى المصرى، وبالتجربة المصرية فى الإدارة والقيادة الدبلوماسية وفى تنظيم عمل مؤسسات الدولة المختلفة.

ليس هناك مصطلح شائع وذائع الصيت فى مصر وفى مختلف مدارس العلوم السياسية حول العالم، خلال العقدين الماضيين، كمصطلح «القوة الناعمة»، وهو المصطلح الذى صاغه عالم السياسة الأمريكى «جوزيف صموئيل ناى»، العميد السابق لكلية كينيدى الحكومية فى جامعة هارفارد، الذى كان يشغل إبان حقبة الرئيس بيل كلينتون، مساعد وزير الدفاع للشئون الأمنية الدولية، وقدم عددًا من الكتب صاغ فيها تعريف القوة فى الاستراتيجية الأمريكية، ما بين قوة صلبة وناعمة، ثم «قوة ذكية» والتى تعنى الجمع بين الصلبة والناعمة. وتعريف القوة الناعمة، وفقًا لجوزيف ناى، هى القدرة على جعل الآخرين يريدون ما تريد، دون استخدام القوة والإكراه والترغيب بالمال، وجعل أفكارك وسياساتك ورؤاك مقبولة وذات شرعية أخلاقية وسياسية، وتحويل تجربتك وقيمك فى البناء الحضارى والإنسانى لمؤثرة وجاذبة وملهمة لدى الآخرين، سواء كانوا حكومات أو شعوبًا وجماعات فى دول أخرى.

دائمًا ما نسمع أن أدوات القوة الناعمة المصرية تقلصت وفقدت تأثيرها وجاذبيتها، وادعاء بأن هذه الميزة وهذا الثقل انتقلا لمناطق عربية أخرى، كمنطقة الخليج مثلًا، التى تتبنى مشاريع طموحة لإعادة تشكيل وعى شعوبها، وخلق أفكار وطنية وانتماءات تتجاوز الانتماءات القبلية والعرقية، لكن من وجهة نظرى هذا ادعاء غير صحيح، ويستند إلى مجرد ظواهر دون بحث معمق، وسواء كنت متفقًا معى أو مختلفًا، أستطيع القول إن أدوات التأثير الثقافى والفكرى والسياسى والدبلوماسى التى تشكل قوة مصر الناعمة لا تزال حاضرة فى كل الإقليم العربى، لا تزال مؤثرة وتصعب منافستها واستبدالها، لأن أحد أهم أعمدتها هو «الإنسان المصرى» القادر على الإبداع وتقديم كل ما هو عظيم وجذاب من إنتاج ثقافى وفنى وفكرى، لتستمر السيادة الثقافية المصرية فى تشكيل وعى أكثر من ٤٠٠ مليون عربى من المحيط للخليج.

الدراما والأفلام المصرية التراثية والحديثة هما علامة بارزة فى كل القنوات الإعلامية العربية بلا استثناء، حتى وسائل التواصل الاجتماعى، وتحديدًا «يوتيوب» والمنصات الترفيهية كـ«نتفليكس»، حيث يمثل المحتوى الدرامى والسينمائى المصرى الغالبية فى المحتوى المذاع. مراكز الأبحاث العربية المعنية بالفكر ودراسة الواقع السياسى والاقتصادى والاجتماعى على المستوى الإقليمى والدولى، قائمة فى معظمها على عقول مصرية خالصة، حتى فى مجالى الإعلام والصحافة العربية، لك أن تتخيل أنه يعمل بهما أكثر من ١٥ ألف مصرى. مصر حاضرة وبقوة فى تشكيل الوعى الجمعى العربى، وتمتلك كل الأدوات والإرث؛ ليستمر هذا التأثير.

حين نرى فى جدة حفلات لأم كلثوم بتقنية «الهولوجرام»، فهذا يعنى أن الإرث المصرى حاضر ومستمر فى جاذبيته، والمختلف فقط أنه تم تقديمه بتقنيات ووسائل مختلفة. هناك مقولة فى المجال الفنى والإبداعى العربى، وهى إن كنت تريد الشهرة والمجد فعليك أن تسافر لمصر، فالنجاح الحقيقى لأى فنان عربى يجب أن يمر عبر مصر. حتى فى مجال المؤسسات الإعلامية الإخبارية العربية، ينطبق الأمر نفسه، فلا نجاح يذكر لأى وسيلة إعلامية دون أن يسطر الشعب المصرى هذا النجاح ويقره.

اللهجة المصرية تكاد تكون هى الوحيدة المفهومة عربيًا، ويرجع ذلك للدراما والسينما المصرية التى جمعت شعوب العرب على مائدة الترفيه والإبداع. الحفلات الغنائية الأنجح فى العالم العربى، كانت ولا تزال لمطربين وموسيقيين مصريين، من عمرو دياب لتامر حسنى لشيرين لأنغام لعمر خيرت، حتى مطربى المهرجانات، سواء اتفقت أو اختلفت معهم، تأثير أعمالهم وصل كل الأقطار العربية.

مصر حاضرة، حتى قصص نوابغها وروادها قادرة على اختراق عقول وقلوب الشعوب، كقصة الدكتور المصرى الراحل «محمد مشالى»، الذى وُصف بطبيب الغلابة، التى قد تبدو للبعض أنها انحصرت داخل مصر، لكن لا يعلمون أن صداها الإنسانى وصل لشعوب شمال إفريقيا والخليج، ومثلت نموذجًا للتجربة الإنسانية الفريدة فى النبل والعطاء دون مقابل. اللاعب المصرى الدولى «محمد صلاح»، لاعب منتخب ليفربول الإنجليزى، تمثل قصة نجاحه على صعيد رياضة كرة القدم قصة إلهام وشغف لملايين البشر على مستوى العالم كله وليس على مستوى الشعوب العربية فقط. شيخ الأزهر الدكتور «أحمد الطيب» والبابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية، من الشخصيات المصرية الكبيرة التى يحظى حضورها على أى مستوى عربى أو دولى بتقدير كبير، وهما فى النهاية يمثلان مؤسستين تعدان من أهم أدوات وقوة مصر الناعمة، وهما الأزهر الشريف والكنيسة الأرثوذكسية المصرية.

الأندية الرياضية المصرية، خاصة «النادى الأهلى» و«نادى الزمالك»، يحظيان بشعبية كبيرة فى الدول العربية والإفريقية، تفوق أى فريق عربى أو إفريقى آخر، وهما أيضًا ضمن أدوات وقوة مصر الناعمة على المستوى الرياضى، خاصة كرة القدم، الأكثر شعبية فى عالمنا العربى.

الإنتاج الشعبى العربى على «يوتيوب»، سواء كان سياسيًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا أو علميًا أو تاريخيًا أو ترفيهيًا، يحظى فيه المؤثرون المصريون «الإنفلونسرز» بشهرة وتأثير كبيرين، ويحققون مشاهدات بالملايين فى البلاد العربية.

دول عربية حين أخذت خطوات محترفة فى الحداثة والبناء والعمارة والإدارة الحديثة، بحثت عن مبدعين ومفكرين وفلاسفة مصريين يشرعون معهم فى بناء هيكل ثقافى ووطنى لهذه الدول يتجاوز فكرة الانتماء للقبيلة، وحين وظفوا فائض الثروة والمال لبناء مسارح ودار أوبرا وعقد مهرجانات وإنشاء شركات إنتاج، لم يجدوا أمامهم سوى المبدعين والرواد المصريين للتعلم منهم، مع التأكيد أن هناك انفتاحًا وترحيبًا مصريًا بهذا الأمر.

هناك تحديث وإعادة بناء جديدة لأدوات القوة الناعمة المصرية، وهناك إيمان حقيقى من الإدارة السياسية الحاكمة فى الجمهورية الجديدة بأهميتها، وهى لا تقتصر على أدوات القوة الناعمة الثقافية، بل أيضًا التعليمية والدبلوماسية والاقتصادية والسياسية والدينية، من خلال استراتيجيات لتعظيم استخدام الثورة الرقمية والمعلوماتية والتكنولوجية فى عالمنا المعاصر للتخديم على هذه الأهداف. فنموذج مصر الناجح فى البناء والتنمية الواسعة فى مختلف القطاعات التى تشهدها الآن هو جزء كبير من أدواتها الناعمة فى تشكيل تحالفاتها الإقليمية والدولية، لتقدم نفسها كنموذج ملهم لكل البلدان الحالمة بالتغيير.

المبدعون المصريون فى مجالات الطب والهندسة والتكنولوجيا والاقتصاد والعلوم الإنسانية، حتى العسكرية، يحظون بتقدير كبير فى كل الأوساط الإقليمية والدولية ولهم إسهامات كبيرة فى مجالاتهم.

الجامعات والمؤسسات العلمية والعسكرية فى مصر لا تزال تجذب الآلاف من العرب والأفارقة سنويًا للدراسة والتدريب، أى نعم ليس بنفس الأعداد التى كانت موجودة فى العقود الماضية جراء انفتاح هذه الدول على النماذج الغربية، لكن تظل ذات جاذبية وتقدم منتجًا مختلفًا مغايرًا لما يقدمه منافسوها.

مصر فى انخراطها الإقليمى والدولى، لا تستند لقوتها الصلبة فقط، ولا حتى قوتها الناعمة، هى توظف قوتها «الذكية»، التى تحدث عنها «جوزيف ناى» والتى هى نتاج القوتين، وتستثمر فى تعظيم هذه القوة، لتصبح قيمها ومبادئها الأخلاقية هى السائدة، وظهر هذا فى ملفات كأزمة سد النهضة الإثيوبى وأزمة ليبيا وملف شرق المتوسط وقضية الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، ومجال مكافحة الإرهاب، وتطورات الأوضاع فى السودان بعد رحيل البشير وملف العراق وملفات إعادة الإعمار بالإقليم وغيرها، وكلها تم فيها تعزيز استخدام الأدوات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية بديلًا عن استخدام القوة الصلبة التى قد تبدو مرضية لقطاعات كبيرة غير مدركة مصادر القوة الشاملة المصرية، التى لا تقتصر بالتأكيد على الجانب العسكرى فقط.

سنحتاج بلا شك إلى استمرار تحديث أدوات قوة مصر الناعمة وفقًا لمقتضيات العصر والمرحلة، ولا مانع من إنشاء مجلس وطنى أو لجنة قومية تضم خبراء من كل المجالات، يكون منوطًا بهم دراسة تأثير القوة الناعمة والذكية المصرية، وبحث سبل تعزيزها على كل المستويات الثقافية والإبداعية والإعلامية والدبلوماسية والسياسية والتنموية والدينية، ودراسة جوانب التغيرات المستمرة فى واقع الدول العربية والإفريقية لجعل النموذج المصرى هو الملهم لشعوبها.