رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ماذا حدث فى أفغانستان؟

 

فى السياسة الدولية، وعلى مسارح الصراعات التى شهدها عالمنا خلال الثلاثة عقود التى أعقبت انتهاء الحرب الباردة، ترسّخت قناعات بأن تعاطى الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع حلفائها فى العالم دائمًا ما كان يشوبه الشك فى مدى التزام واشنطن بدعم الحليف على طول الخط فى مجابهة أى تحديات داخلية وعدائيات خارجية، وزاد عليه يقين أن فاتورة التحالف مع أمريكا مكلفة للغاية، فقد تم رهن شكل ومستقبل أى تحالف بالتجاذبات الداخلية فى أمريكا بين الكونجرس، بغرفتيه، والخارجية والبيت الأبيض وجماعات الضغط هناك التى تعبّر عن مصالح قوى المال والإعلام ولوبى الصناعات العسكرية والتكنولوجية.

الانسحاب العسكرى الأمريكى والدولى الجارى حاليًا من أفغانستان، والذى بدأ من مايو الماضى ومتوقع أن ينتهى نهاية هذا الشهر، رافقه تقدم ميدانى واسع لحركة طالبان فى معظم المناطق الأفغانية الريفية والحضرية، وأصبحت تسيطر حاليًا على أكثر من ٦٥٪ من مساحة أفغانستان، وأحكمت قبضتها على ١٧ ولاية أفغانية من أصل ٣٤ ولاية، وسط ذهول دولى من انهيار القوات الحكومية الأفغانية التى تعجز، حتى الآن، عن إيقاف زحف طالبان تجاه العاصمة كابول، المتوقع سقوطها وأنت تقرأ هذه السطور، أو ربما قبل ذلك.

الانزعاج العالمى من التقدم الميدانى لطالبان، والذى انعكس فى تقارير الإعلام الدولى، جاء من ردود الأفعال الرسمية الأمريكية والغربية المخيبة للآمال، التى اكتفت فقط بإدانة طالبان وتحذيرها من قطع أى مساعدات مستقبلية عن أفغانستان، وعدم الاعتراف بها من المجتمع الدولى.

زاد عليها أن بعثت واشنطن رسالة لطالبان عبر الوسيط القطرى تطلب فيها عدم استهداف البعثة الدبلوماسية فى العاصمة كابول، ولم تتجاوب إدارة بايدن مع دعوات الحكومة الأفغانية ودعوات حتى أعضاء من الكونجرس الأمريكى بتقديم دعم عسكرى أمريكى عاجل عبر الضربات الجوية لوقف تقدم طالبان تجاه العاصمة لمنع سقوطها الوشيك.

واشنطن بشكل فعلى تتخلى عن أفغانستان وتسلمها لطالبان، وهو أمر شبيه بسياساتها فى العراق الذى غزته فى ٢٠٠٣ وفككت جيشه، ثم بعد ذلك سمحت لطهران بتوسيع نفوذها فى بغداد، لدرجة أنها أصبحت هى اللاعب الإقليمى والدولى الأول هناك، عبر مجموعات سياسية وميليشيات مسلحة متحالفة معها وتدافع عن مصالحها.

تقول «البنتاجون» إن القوات العسكرية والأمنية الحكومية لديها تفوق فى عدد القوات ونوعية التسليح بالمقارنة مع حركة طالبان، وأن بمقدورها وقف زحف الحركة تجاه العاصمة كابول.. التصريح فى حد ذاته إدانة لواشنطن التى صرفت على مدى عقدين أكثر من ٨٣٠ مليار دولار لإعادة بناء الدولة الأفغانية، خاصة القدرات العسكرية، والانهيار الجارى للقوات الحكومية أمام طالبان واكتفاء أمريكا وحلفائها الغربيين بالإدانة والإسراع بإجلاء البعثات الدبلوماسية لا يعنى سوى فشل الاستراتيجية الأمريكية فى تحقيق الاستقرار فى أفغانستان، وستكون له تأثيرات أعمق على المديين المتوسط والبعيد على صورة أمريكا فى نظر حلفائها فى العالم، بأنها حليف غير موثوق به بالمقارنة مع قوى منافسة لأمريكا كروسيا والصين مثلًا.

فى مقابلة له، فى يونيو الماضى، على قناة «إن بى سى» الأمريكية، قبيل لقائه الأول فى جنيف مع الرئيس الأمريكى جو بايدن، ذكر الرئيس الروسى فلاديمير بوتين أن أهم قيمة فى العلاقات الدولية هى الاستقرار والقدرة على التنبؤ، مؤكدًا أن الأمريكان فى تعاطيهم مع الأزمات والملفات الدولية لم يملكوا دائمًا القدرة على التنبؤ وتحقيق الاستقرار، مستشهدًا بأمثلة ما حدث فى ليبيا من إسقاط نظام الرئيس الراحل معمر القذافى بالقوة العسكرية، يقول بوتين: «تحدثوا دائمًا عن بقاء القوات فى أفغانستان ثم فجأة انسحبت القوات من أفغانستان، ما هو هذا الاستقرار والقدرة على التنبؤ.. هل الأحداث فى الشرق الأوسط متوقعة ومستقرة، إلى أين سيؤدى كل هذا.. فى سوريا مثلًا، سألت زملائى الأمريكان: أنتم تريدون أن يرحل الأسد، ومَنْ سيحل محله؟ ماذا سيحدث بعد ذلك؟ الجواب كان غريبًا، لا نعلم.. حسنًا، إذا كنت لا تعرف ماذا سيحدث بعد ذلك فلماذا تغير ما هو موجود الآن؟.. دعونا نجتمع ونتحدث، فلا يمكن تحقيق الاستقرار والقدرة على التنبؤ بالأحداث بفرض وجهة نظر واحدة».

تشريح «بوتين» لكيف تدير واشنطن علاقاتها الدولية وشكل تفاعلها مع الأزمات، رغم أهميته، إلا أنه لم يأتِ بجديد، بل هو قريب مما ذكره من قبل وزير الخارجية الأمريكى الأسبق «هنرى كيسنجر»، حين أكد أن أمريكا ليس مطلوبًا منها حل الأزمات الدولية بقدر رغبتها دائمًا فى إدارة تلك الأزمات والتحكم بمسارها لخدمة المصالح الأمريكية، وهو ما يعنى أن مهندسى السياسة الخارجية الأمريكية يعلمون ماذا يفعلون بالضبط، وانسحابهم من أفغانستان وترك الأفغانيين لسيطرة طالبان والتنظيمات الإرهابية كالقاعدة وداعش ليس عشوائيًا ولا يتم دون بحث ودراسة متأنية، واعتقادى أنهم يرغبون فى استمرار أفغانستان كأزمة يوظفونها فى تحركاتهم على المسرح الدولى، لكن هذه المرة بخسائر أقل، بعد أن كلفهم التدخل العسكرى المباشر هناك خلال عشرين عامًا سقوط أكثر من ٢٤٠٠ قتيل وصرف مليارات الدولارات.