رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«عريان الشيخة أمونة» يتحول إلى «خزنة مال»

لبعض المصريين طرق فريدة فى جمع المال، وحيل عجيبة فى سحبه من جيوب غيرهم. شقيق حضرة القطب الولى السيد على البكرى من هذا الصنف من البشر الذى قلب المأساة التى عاشها إلى مجلبة للمال، وتمكن من تحويل أخيه مخلول العقل إلى كائن حلوب يدر المال فى كل وقت، سواء كان يسعى فوق الأرض أو يرقد فى باطنها.

قفز اسم الولى «على البكرى» إلى ذاكرة عبدالرحمن الجبرتى عندما سمح الفرنسيون للمصريين بالعودة إلى الاحتفال بموالد الأولياء بعد مرور عام على غزوهم مصر، أهمل المصريون خلاله ما جرت عليه عوائدهم خوفًا من الفرنسيس.

عادت مياه الاحتفال بالموالد إلى مجاريها عام ١٧٩٩، وكان من بينها مولد السيد على البكرى، الذى يرقد جثمانه بمسجد «الشرايبى» القريب من «الرويعى». ولا ينتمى على البكرى عائليًا إلى طائفة السادة البكرية، لكنه اكتسب هو وشقيقه لقب «البكرى» بسبب محل سكنهما بسويقة البكر، كما يقرر «الجبرتى».

الواضح مما يحكيه الجبرتى وهو يقدم ترجمة السيد على البكرى أن الرجل كان يعانى من مرض عقلى يدفعه إلى خلع ملابسه وكشف سوءتيه وإمساك نبوت فى يده ثم يهرول إلى الشارع وراء خلق الله، الذين يفرون منه فى كل حدب وصوب؛ خوفًا من نبوته.

مشاهد العراة فى شوارع القاهرة فى ذلك الوقت كانت معروفة ومشهورة، ورغم أن المصريين كانوا يتفاعلون مع شذوذهم بالضحك، إلا أنهم كانوا مهيئين نفسيًا لقبولهم كأولياء. فالشاذ فى نظر الأهالى حينذاك كان له خطره كما أن له دلالته. فخطره مرتبط بـ«شربة الولاية» التى تعاطاها الولى فأسكرته وأفقدته عقله ووعيه، وبالتالى فخلع الملابس هنا لا يدل على عته أو سفه، بل يؤشر إلى مرحلة قد اجتازها «العريان» ومقام قد حازه. فالعرى هنا دليل الشربة والشربة دليل الولاية.

كان شقيق «على البكرى» واعيًا كل الوعى بهذه المسألة، لذلك فعندما رأى بعض الأهالى ينظرون إلى أخيه نظرة تبجيل ويرونه يسير فى طريق الولاية، فى حين يتضاحك عليه آخرون ويتهمونه بالجنون، وينأى عنه آخرون مؤثرين السلامة، بيّت فى ضميره أن يلعب على الكل لعبة كبيرة، يتخلص فيها من العار الذى يلحقه بسبب أفعال شقيقه المجنون، وفى الوقت نفسه يحوله إلى آلة لحلب الأموال واستنزافه من جيوب أصحاب النصيب.

تمكن الشقيق الذى يصفه «الجبرتى» بأنه كان «ذا دهاء ومكر» من أن يلعب اللعبة الكبرى، وأخذ يروج بين الناس أن شقيقه يفعل ما يفعل لأنه شرب شربة الولاية وأصبح قطبًا من أقطاب الغوث. سمعت امرأة اسمها «الشيخة أمونة» بأمر العريان الجديد فانطلقت وراءه تلتمس من جسده المقدس البركات، وأصبحت تابعة له، تظهر معه حيثما يظهر، ولأنها هى الأخرى شيخة، فقد أسهم وجودها إلى جوار «العريان» فى دعم شعبيته كأحد الأولياء الصالحين.

ما إن بدأ شقيق الولى المزعوم ينشر كراماته حتى هرول نحوه الرجال والنساء من كل حدب وصوب، للزيارة والتبرك والشكوى وقضاء الحاجات، والشيخ أمامهم يهذى بكلمات غير مفهومة. وبمرور الوقت كثر زوار الشيخ حتى ضاق بهم المكان، فأصبحوا يقفون طوابير على عتبته، وكان من بينهم كما يقول «الجبرتى»: «نساء الأمراء والكبراء».

لم يكن الزوار يسمعون من الشيخ أكثر من الهذيان والخلط اللفظى، لكن شقيقه الداهية أقنع الجميع بأن الشيخ يطلع على خطرات القلوب وينطق بما فى النفوس عبر هذا الهذيان والتخريف، فطفق كل من يزوره ينصت إلى هذيانه وتخريفه؛ ليلتقط منه كلمة أو همسة أو حركة قام بها ويؤولها بما فى نفسه، ويردد أمام الآخرين بأعلى درجات الانبهار أن الشيخ تمكّن من قراءة ما يجول فى خاطره ونجح فى اكتشاف مكنون نفسه، وليس هناك خلاف على أن أمثال هؤلاء كانوا يتحولون إلى دعاة للولى المزعوم فيجذبون غيرهم إليه فزاد جمهوره بصورة كبيرة.

ومع زيادة الجمهور وتعاظم الزوار تعاظمت المدخولات التى تأتى إلى الشيخ، وكانت المدخولات عبارة عن أموال ومأكولات وهدايا ونذور وغير ذلك، كان الشقيق يحتجز المال لنفسه دون أخيه الذى لا يفرق بين المال والطعام، ويأكل من الطعام قدر ما يستطيع، ويترك الباقى لسيده الشيخ، وكان الباقى كثيرًا، وكان الشيخ شرهًا للأكل، وقادرًا على التهام كميات كبيرة من الطعام، بسبب مكوثه دون عمل أو شغل طول اليوم فسمن وربرب.

لم يشغل الشقيق نفسه بحالة الشيخ التى تسوء نتيجة الشره للطعام، فقد كان مستغرقًا فى عد الغلة التى يحصل عليها كل يوم من نفحات وإمدادات أحباب الشيخ. تضخم الشيخ وسمن من الأكل والدسومة والفراغ، حتى أصبح مثل الجمل العظيم إلى أن دهمه هادم اللذات فلقى وجه ربه والطعام فى فمه.

مات مصدر ثراء ووجاهة الشقيق الذى أُتخم بالمال من كتف شقيقه الولى المزعوم.. فهل سكت عند هذا الحد؟ قرر الشقيق دفن شقيقه فى جامع الشرايبى وبنى فوق مدفنه مقصورة ومقامًا، وأتى بالمقرئين يتلون القرآن فى المقام والمداحين ينشدون القصائد فى ذكر كرامات الولى الراقد، ثم أقام له مولدًا كبيرًا شارك فيه الكثيرون ممن يذكرون الشيخ وكراماته، وازداد زبائن المولد أكثر وأكثر بفعل ما غذاه شقيقه من أساطير حول الراحل، وهى الأساطير التى تدعمت عامًا بعد عام بخيالات المريدين.

كان من يأتون لزيارة مقام الولى المزعوم يصرخون ويتمرّغون على أعتابه، وبعضهم كان يغرف من الهواء المحيط بالقبر ويدس فى عبّه وجيبه، حتى أصبح الولى ومريدوه مثلًا يضرب على الجنون واختلال العقل. وقد استشهد «الجبرتى» على ما أصاب الناس من خطل عقلى بقول الشاعر: «ليتنا لم نعش إلى أن رأينا.. كل ذى جنة لدى الناس قطبًا».

انقطع الناس عن الاحتفال بمولد «البكرى» بعد دخول الفرنسيين فى جملة ما انقطعوا عنه من احتفالات، تحسبًا وتوجسًا من ردود فعل جنود الحملة الفرنسية عليها، حتى أذنت السلطة الجديدة بالعودة إلى ما كان عليه العهد قبل دخولهم مصر، بل وأصدرت أوامرها بالعودة إلى الاحتفال بالموالد، ومن بينها مولد الولى المزعوم السيد أحمد البكرى.

ويفسر «الجبرتى» ذلك بقوله: «ورخص الفرنساوية الاحتفال بالموالد للناس لما رأوا فيها الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهى وفعل المحرمات».

كذلك دائمًا يتوه المصريون بين المنشغلين بالجهل والمهمومين بالشرع.. أما العقل فيبدو أنه قدم استقالته منذ عقود.