رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حتى لا يعود الإخوان

لا يزال مشهد الإطاحة الشعبية بحكم الإخوان الاستبدادى والفاشى حاضرًا معنا، وسيظل حاضرًا لسنوات وعقود مقبلة، ولو كان تاريخ الإخوان الإجرامى فى العنف والاغتيالات فى الأربعينيات والخمسينيات محصورًا فى عدد من الوقائع، كاغتيال النقراشى باشا والقاضى الخازندار وغيرهما، فإن هذا الأمر لم يعد يحتاج لوثائق من الأرشيف لإثباته، فشواهد الحاضر كثيرة، وما عاشته مصر فى الـ١٠ سنوات الماضية والموثقة صوتًا وصورة كافية لإدانة هذا التنظيم للأبد كتنظيم إرهابى، ويحتاج منا جميعًا «دولة ومجتمعًا» لليقظة وعدم السماح بعودته مرة أخرى تحت أى مسمى.

من الأهمية بمكان دراسة كيفية تلافى أخطاء الماضى، من وجود ثغرات أو فراغات فى المجال العام يعبرون منها مرة أخرى للحياة، فى شكل يمكن أن نطلق عليه «العودة الناعمة»، وهو أمر حدث من قبل بعد حظرهم فى ١٩٥٤ والمواجهة بينهم وبين نظام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فرغم الضربات الأمنية القوية التى تلقاها التنظيم، نجح فى العودة بعد ١٠ سنوات من خلال ما عُرف وقتها بتنظيم ٦٥، والذى كان متهمًا رئيسيًا فيه سيد قطب. ثم جاءت السبعينيات والسياسة الخاطئة التى اتبعها الرئيس الراحل أنور السادات بفتح المجال العام لعودتهم، ورافق ذلك بالمناسبة زرع بذرة الفكرين السلفى والجهادى وبداية تغريب المجتمع المصرى عن هويته وفطرته السليمة.

خطأ السادات وظفه عمر التلمسانى، مرشد التنظيم، فى إعادة التحرك الواسع على كل المستويات لاختراق المؤسسات والكيانات، من الجامعات للنقابات المهنية للأحزاب السياسية، توج بعد ذلك فى الثمانينيات، وقت الرئيس الراحل مبارك، بتحالف بين الإخوان وحزب الوفد ودخولهم مجلس النواب لأول مرة، ثم تعاظم نفوذهم داخل النقابات كالأطباء والصيادلة والمهندسين، وحتى نقابة المحامين، وتضاعف نشاطهم داخل الجامعات المصرية، وساعدهم هذا فى تجنيد المئات من الشباب المصرى وفى رسم صورة ذهنية جيدة عنهم.

جاء العقد الأول من الألفية الثالثة، وفيه نستطيع القول إن التنظيم نجح باقتدار فى أن يكون جزءًا رئيسيًا من المجال العام المصرى، سياسيًا رأيناهم يحصلون على ٨٨ مقعدًا من برلمان ٢٠٠٥، شاهدنا مدى تأثيرهم داخل النقابات المهنية الرئيسية، ووظفوها لصالحهم، وحتى النشاط الطلابى فى الجامعات اقتصر وقتها على مواجهة أمنية لتقييد حركة شباب الإخوان فى الجامعات فقط دون محاولة المنع الكامل وملء الفراغ داخل الجامعات بأنشطة طلابية من شباب مختلفين جذريًا مع التنظيم وأفكاره.

أما اجتماعيًا، فاستغل التنظيم غياب الدولة وتقصيرها فى القيام بدورها الطبيعى فى تقديم الخدمات كالصحة والتعليم، فأصبح هو البديل فى الشارع لتقديم هذه الخدمات، وهو أمر أسهم فى انتشاره وفى اختراقه الوعى الجمعى لقطاعات كبيرة من المصريين، رأت فيه وقتها أنه فصيل مصرى و«ناس بتوع ربنا».

أتذكر قبل يناير ٢٠١١ كان العديد من القوى المدنية ينظر بتعاطف مع التنظيم، وكان يسخف من القضايا والاتهامات التى توجه لعناصره، وهذا يرجع إلى أن تنظيم الإخوان كانت لديه استراتيجية لتجنيد وتحييد واختراق كل هذه القوى. 

غابت الدولة بشكل كبير خلال الأربعة عقود الماضية، وتركت عقل المواطن المصرى فريسة لتنظيم الإخوان وغيره من التيارات الظلامية، النقيض للهوية المصرية الجامعة، وحقيقى لا أعلم كيف كان يفكر القائمون على إدارة الدولة حينذاك فى هذا الأمر.. لماذا لم يدركوا خطورة هذه السياسات مستقبلًا على المشهد الاجتماعى فى مصر؟ لماذا لم يدركوا أن هذه الأفاعى التى بثت سمومها فى عقول المصريين تنتظر اللحظة لتوجه هذه السموم للدولة نفسها، وهو ما حدث فعليًا بعد يناير ٢٠١١؟

على كل حال، نجحت الإدارة الحالية بقيادة الرئيس السيسى، خلال السنوات الـ٨ الماضية من ثورة المصريين على الإخوان فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ فى تلافى أخطاء كل الإدارات المصرية السابقة، وعملت على تجفيف كل منابع التطرف، والتحفظ على كل المنافذ والمنصات والنشاط الطلابى، وأصبح أى نشاط لهم من المحرمات؛ فالتنظيم مصنف إرهابيًا الآن. لكن كل هذه الخطوات تحتاج لاستراتيجيات إضافية على المدى المتوسط والبعيد تسهم فى ملء الفراغات، وتمثل ضامنًا لعدم عودة الإخوان الناعمة مرة أخرى، كما حدث فى الحقب الماضية.

نحتاج تقوية الأزهر وأئمة الأوقاف لتوفير «الإشباع الدينى الصحيح» ليقدموا خطابًا دينيًا مستنيرًا عصريًا يكون بديلًا للخطاب المتخلف الذى كان يقدمه الإخوان، نحتاج لاستمرار الدولة، كما تفعل الآن، فى أن تكون على تماس مباشر مع المصريين فى القرى والنجوع والمراكز على مستوى الجمهورية فى تقديم الخدمات وعدم ترك المواطن مرة أخرى تحت رحمة هذه التنظيمات. من المهم إحياء الحركة النقابية فى مصر مع ضمان عدم وجود أى اختراق إخوانى لها، ونفس الأمر مع الحركة الطلابية فى الجامعات.

الدراما والسينما والأدب والثقافة والإعلام، بلا شك من أهم الأدوات التى نضمن معها وجود حصانة ومناعة قوية لدى المصريين ضد أفكار هذه التنظيمات الإرهابية والمتطرفة، وشاهدنا التأثير الكبير الذى أحدثته دراما «الاختيار»، وقبلها دراما «الجماعة» للراحل وحيد حامد، وأعتقد أننا فى حاجة للعشرات من هذه الأعمال. وعلى المستوى السياسى، بالتأكيد الخطوات التى اتُخذت للتمكين السياسى للشباب والمرأة جيدة، وتحتاج لتعزيزها، خاصة على مستوى المحليات، فالمكونات المجتمعية حين تكون جزءًا من العمل الأهلى والتنفيذى والرقابى فى الدولة، هذا يجعلها فى الصفوف الأمامية فى معركة المواجهة مع تنظيمات كالإخوان.

هناك من يدّعى أن المعركة مع الإخوان وتيارات ما يسمى بالإسلام السياسى انتهت، لكن هذا ادعاء باطل مبنى على تقدير موقف غير صحيح، فالمعركة معها ستظل مستمرة، وأى تباطؤ أو تقاعس فيها سيضعنا جميعًا دولة ومجتمعًا فى نفس أخطاء الماضى، وهى عودتها الناعمة.