رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالرحيم طايع يكتب: «على حميدة».. مأساة صدفة القمة

عبدالرحيم طايع
عبدالرحيم طايع

فى عام 1988 من القرن الفائت صدر ألبوم «لولاكى» الذى اتخذ من تلك الأغنية التى تضمنها اسمًا له، وقد ذاعت تلك الأغنية بالذات ذيوعًا كثيفًا محيرًا وقتذاك، لا يزال محل بحث الباحثين فى الموسيقى والغناء، وزَّع الألبوم نسخًا بالملايين فى العالمين الشرقى والغربى «قدِّرت بستة ملايين فى التقديرات الأشمل»، وارتبط المغنى الراحل «على حميدة» بأغنيته المشار إليها ارتباطًا مقيمًا لازمًا، بل تمكنت هى من إزاحته وتصدر مشهده برمته كما أزاحت بقية أغانى الألبوم نفسه «من صغرى، حبابة، بيكى، زينا، وينها، يا موجا، عنى»، فصنع له المنتجون فيلمًا باسم أغنيته فى عام 1993، وكان فيلمه الثانى بعد الأول الذى حمل عنوان «مولد نجم» فى عام 1991.

صدر ألبوم «لولاكى» فى الحادى عشر من فبراير من العام المذكور، وتلته عدة ألبومات منفردة هى: ناديلى، كونى لى، نن العين، خان العشرة، احكى لى. غير أن صدفة النجاح المدوى الذى حققته أغنية الألبوم الأول لم تتكرر قط، وربما كانت تلك الحكاية بداية العذابات الشخصية للمغنى الذى استيقظ ذات صباح على انتشار عظيم، لكنها كانت المرة الوحيدة التى وجد فيها نفسه نجمًا بأعلى قمة.

الأغنية التى أنتجت ألبومها شركة «سونار» الشهيرة بذلك الزمن؛ كانت من كلمات «عزت الجندى»، وتلحين «سامى الحفناوى» ووزعها موزع موسيقى الجيل «حميد الشاعرى»، ذلك الموزع المتفوق الذى التقى الجميع فى ساحته تقريبًا، ولم يفلت منه أحد، بل برزوا كلهم على يديه بروزًا مدهشًا، غير أنه لم يسلم من اتهامات المتهمين، متخصصين ومتذوقين، أعنى الاتهامات التى يشير بعضها إلى سطوه على تراث الآخرين الذين ينتمى إلى منطقتهم وثقافتهم، ويشير بعضها الآخر إلى استسهاله النغمى ومجانيته الفنية، غير أنه بقى فى جميع الأحوال مهيمنًا على جيل أثَّر فى مسار الأغنية تأثيرًا هائلًا ليس بالمسبوق، وبقى ملهمًا بلا جدال، وبالطبع لا يخلو الطعن فيه من تربص الموسيقيين الذين ركدت بضاعتهم بسببه فى الزمن الذى أضاء فيه مصباحه، ولا يخلو من ضيق المعجبين بموسيقيين سواه.

يعود أصل الراحل «على حميدة» إلى مرسى مطروح، وهكذا كان خامة صوتية بدوية مفتقدة فى جملة الأصوات الصداحة بالغناء فى القاهرة، من اليسير أن يستثمرها شاعر ذكى وملحن خبير ومنتج بارع وموزع ألمعى، وهو ما جرى فى وقته بكل تأكيد، ودون أن يضمن له أحد من هؤلاء أن يظل معه كمتابع وفىّ لمشروعه الغنائى؛ فاللعبة الإبداعية بلا ضمانات أصلًا، كما أن المبدع الذى فى واجهة الموضوع، المغنى فى حالة الغناء طبعًا، هو المسئول الأول والأخير عن الصواب والخطأ، وأظن طبيعة «على حميدة» وعاداته وتقاليده، وهو ابن منطقة قيمية بامتياز، تعتد بمعنى الصداقة والأخوة والمؤازرة والمساندة وما إليها، لم تكن تتفهم ذلك فى بواكير المشوار.

انزوى «على حميدة» قبل أن يصاب بالسرطان اللعين، مكتفيًا بمشاركاته القليلة فى التمثيل «قام ببطولة فيلمين ودخل كضيف شرف فى مسلسلات محدودة وغنى قدرًا ضئيلًا من التترات»، مكتفيًا بألحانه لنفسه وللآخرين، وهو الملحن الشاطر الذى لم يبالِ المتلقون للأسف بتفوقه فى مجال التلحين، ومكتفيًا، من البداية إلى النهاية، بأغنيته «لولاكى» التى كانت علامة فارقة فى مسار التغيير المطلوب لإحياء جيل بأكمله من جديد، جيل كان هو منه وتسبب فى نجومية بعضه، أعنى التغيير فى الكلمة واللحن والتوزيع وفى الأداء نفسه.

قبل أن ينزوى ويمرض، كان قد تعرض للإهمال الفنى والتجاهل الإعلامى، وأما الجماهير فكانت انصرفت عنه إلى غيره من الطاقات الشبابية المتلاحقة فى عالم الغناء، ومن الكلمات التى تخطت الإعجاز فيما سبقها، والموسيقى الجذابة التى تجاوزت فترته كلها.. كل ذلك أفضى به إلى اليأس وكان بمثابة قتل حقيقى له.. قتل بغير دماء.

قابل الفنان الجميل وجه رب كريم، وحين نعاه الناعى، عاد إلى الذاكرة بقوة، ربما هى القوة نفسها التى كان يحتاج إليها فى محن حياته، إلا أنها مفارقات الدنيا، لكن فى القصة ما يجعل الوعى والانتباه أكثر قيمتين يجب أن يصر الفنانون على صحبتهما فى الطريق المضنى الملىء بالأشواك قبل الزهور؛ ولو حرص الراحل عليهما، برحلته القصيرة، فلعله كان انعتق من الآلام القاسية «يرحمه الله».