رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المشروع القومى.. يوحد الشعب


فى خضم انشغالى بالفقر فى مصر، وآثاره المدمرة، حتى على الانتقال الديمقراطى فى بلادنا، استرجعت استنكار الأستاذ محمد حسنين هيكل لعدم وجود مصر بلا مشروع قومى حقيقى، قال الأستاذ «لأول مرة نرى مصر بدون مشروع قومى..

جمال عبدالناصر كان لديه مشروع، وهو طرد الإنجليز والتنمية، ومازلنا نستفيد من السد العالى حتى الآن، والحركة الوطنية قبله كان مشروعها جلاء الإنجليز عن مصر، وسعد زغلول كذلك، باستمرار كان فيه مشروع مصرى جامع، لكن النهاردة إيه اللى عاوزينه بالظبط؟».

والحقيقة، ومنذ قراءتى لكتاب الأستاذ «خريف الغضب»، قبل عدة سنوات، وأنا أؤمن بضرورة وجود المشروع القومى الذى يلتف حوله المصريون، يوحد أهدافهم ويقوى عزيمتهم، ويبث فيهم الأمل فى غدٍ يشرق على الجميع، فإذا هم فى نعمة من العيش وعزة فى النفس، وكرامة فى وطن يعمل من أجل أبنائه، وأبناء يجتهدون من أجل وطنهم.. وانظروا كيف وحد مشروع السد العالى أبناء هذه الأمة، وكيف وقفوا فى مواجهة العدوان الثلاثى، الذى جاء رداً على قرار ناصر بتأميم قناة السويس، لأن أحداً لم يدعم تمويل بناء السد، الذى ينعم المصريون بآثاره الإيجابية حتى الآن.

وعندما طرح الدكتور فاروق الباز، مشروعه القومى الجديد «ممر التنمية فى الصحراء الغربية»، كوسيلة لتأمين مستقبل الأجيال القادمة فى مصر»، تمنيت أن يحظى المشروع هذه المرة بالاهتمام الكافي، إذ سبق تقديمه للحكومة عام 1985، سعياً لفتح آفاق جديدة للامتداد العمرانى والزراعى والتجارى، ولم تتمكن من الأخذ بهذا الاقتراح، لأسباب مختلفة، تتعلق بظروف وقتها، مع أن التفوق الأمريكى على باقى دول الغرب، يأتى فى أحد أسبابه، من إنشائها لشبكة من الطرق والسكك الحديدية، تمكنها من استغلال ثرواتها الطبيعية.

منذ أكثر من خمسة آلاف عام، اعتمد المصريون القدماء على النيل، كطريق يربط شمالها بجنوبها، وكذلك فعل الرومان والعرب الفاتحان.. لكن مصر الحديثة لم يعد يكفيها النيل وسيلة للنقل، ويتعذر فيها الآن إنشاء طرق جديدة فى الوادى والدلتا، لأنه اعتداء على الأراضى الخصبة التى رسبها النيل على مدى ملايين السنين، ومع تكدس السكان فوق 5% من مساحتها، فلابد من فتح آفاق جديدة للتوسع العمرانى والزراعى والتجارى خارج وادى النيل.

مشروع فاروق الباز، يقع فى صحراء مصر الغربية، يمتد من ساحل البحر المتوسط شمالاً حتى بحيرة ناصر جنوباً، بطول 1200 كيلو متر، من الإسكندرية حتى أبوسمبل، ويحازى غرب وادى النيل، بمسافات تتراوح بين 10 إلى 80 كيلو مترًا.. يقول الباز إن مكوناته عبارة عن طريق رئيسى للسير السريع بمواصفات عالمية، وإثنى عشر طريقاً عرضياً تتفرع منه إلى مراكز التجمع السكانى على طول مساره، تبلغ أطوالها 800 كيلومتر، وشريط سكك حديدية بمحازاة الطريق الرئيسى، وأنبوب مياه من بحيرة ناصر جنوباً حتى نهاية الطريق على ساحل البحر المتوسط، وخط كهرباء لتوفير الطاقة للمشروعات الصناعية والعمرانية.. وقد قدر المختصون تكلفة المشروع، وقت تقديمه للحكومة قبل عشرين عاماً من الآن، بحوالى ستة بلايين دولار، ترتفع الآن إلى أربعة أضعاف، وهى ليست مستعصية على التدبير، إذا كان المستثمرون العرب، هم شركاءنا فى هذا الامتداد الجغرافى الجديد، ولن يتقاعس القطاع الخاص المصرى عن القيام بدوره فى تأمين مستقبل شعب بأكمله، خاصة وأن جمع المبلغ يمكن أن يأتى من بيع الأراضى الصالحة للإعمار على جانبى الطرق العرضية.

لقد كانت مصر، على مدى العصور، منبعاً للحضارة والفكر والعلم، والثقافة والبناء وحسن الأداء، وبين آونة وأخرى، تخبو فيها شعلة الحضارة وينطوى شعبها على نفسه، وكأنه فى غيبوبة لا يعى ما يدور حوله فى العالم، لكنه سرعان ما يفيق لتتوهج شعلة حضارته مرة أخرى، وهو ما ينتظره كل العرب أيضاً.. وقد أثبت تاريخ الأمم، أنه منذ خلق الله الإنسان على الأرض، فإن الحضارات تزدهر إذا توافرت فى المجتمعات مقومات ثلاثة أساسية، أولها فائض إنتاج من الغذاء، وثانيها تقسيم العمل بين أفراد المجتمع تقسيماً مناسباً، مع ترقية أهل الخبرة وليس أهل الثقة، وأخيراً توفير حياة كريمة للإنسان حتى يتمكن البعض من الإبداع والابتكار فى عملهم.. ولن تعود مصر، كدولة عظيمة، إلا إذا توفرت هذه المقومات الثلاثة.

ذلك هدف غير بعيد، مع مشروع لن يستغرق إلا عقداً أو عقدين من الزمان على الأكثر، لكنه سيعيد الحيوية والإنتاجية لشعب مصر، وصولاً به إلى موقع متميز بين دول العالم مرة أخرى.. فهل نفعل؟.

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.