رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«القديسة» و«الأيقونة» فى وجداننا



اليوم بداية صوم السيدة العذراء للعام الأصعب فى حياة كل شعوب العالم.. وأتذكر بتلك المناسبة أنه ومنذ أكثر من نصف قرن، وقبل أن يحل موعد صيام السيدة العذراء مريم بأسبوع، كانت حالتى الصحية قد تفاقمت وأنا طفل عمره ٥ سنوات، فقد كان التنفس فى غاية الصعوبة إلى حد بدت فيه حركة جسدى كحركة قربة المياه التى تهزها المياه داخلها دون أن تجد متنفسًا للخروج، حيث تولت «اللوز» و«لحمية الأنف» سد فتحات مرور الهواء دخولًا وخروجًا، وعليه قرر والدى رحمه الله الذهاب فورًا لنيل بركات قداسة البابا كيرلس السادس وطلب الصلاة من أجل إنجاح العملية، وطمأننا قداسته بكل حب وبمشاعر أبوة لن أنساها.
عند عودتنا من القاهرة وجدت والدتى قد بدأت صيام السيدة العذراء قبل حلول موعده بأسبوع، وعلمنا أنها قررت صيام ذلك الأسبوع الإضافى طوال حياتها رحمها الله، وهو ما أوفت به حتى رحيلها طلبًا لشفاء ولدها الأصغر بشفاعة من نصوم فى ذكراها كل عام السيدة العذراء مريم.
يذكر الباحث والكاتب الرائع «ماجد كامل».. يروى القديس مار أفرام السريانى «٣٠٦- ٣٧٣م» فى ميمر شهير له فيقول «بينما كانت حنة تندب نفسها كل وقت قائلة: أى شىء تساوى حياتى من الدنيا مع تجردى من الثمر؟ وهى ذى البهائم والطيور وكل المخلوقات ترزق نسلًا، أما أنا فلم أرزق، الويل لى أنا وعظيم هو حزنى وألم قلبى.أسألك أيها الإله الدائم وحده الذى سمع صوت سارة زوجة أبينا إبراهيم وأعطاها إسحق بعد الكبر، وسمع لراحيل وأعطاها يوسف وبنيامين.. أن تسمع صوت دعائى أنا المسكينة الخالية من النسل، وتعطينى زرعًا يسر به قلبى؛ لأنى صرت مرذولة بين أهلى وعشيرتى.. وها أنا أنذر بين يديك يا إلهى أن النسل الذى تعطينى إياه لا أدعه يمشى على الأرض حتى أقدمه لهيكلك المقدس. وذات ليلة وبينما هى تصلى ظهر لها الملاك جبرائيل بنور سماوى وقال لها: يا حنة إن الله قد سمع لدعائك وصلواتك، وها أنت ستحبلين وتلدين ابنة مباركة وسيكون لها الطوبى فى جميع الأجيال، وفى جميع أقطار المسكونة، فأجابت حنة الملاك جبرائيل وقالت له: حى هو الرب، لو أننى رزقت بمولودة كما قلت لى، لسوف أقدمها قربانًا للرب الإله، لتخدمه كل أيام حياتها فى هيكله المقدس».
وبعد تسعة أشهر ولدت الطفلة المباركة مريم، وتعيّد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بيوم مولدها فى ١ بشنس، بينما يعيد له الروم الأرثوذكس فى يوم ٨ سبتمبر. ولقد أبرت حنة بوعدها. فما إن بلغت مريم سن ثلاث سنوات، حتى حملتها حنة إلى الهيكل لتكون خادمة للرب. وحسب شهادة التقليد الكنسى، فلقد توفى يواقيم الأب عندما كانت مريم فى السادسة من عمرها، أى بعد ثلاث سنوات من دخولها الهيكل، بينما توفيت أمها حنة عندما كانت مريم فى الثامنة من عمرها، أى بعد خمس سنوات من دخولها الهيكل، وهكذا صارت مريم يتيمة الأبوين ولم تكمل بعد عامها الثامن.
وإذا كانت تلك الإشارة السريعة من كاتبنا حول طفولة السيدة العذراء، فإن كتب التاريخ تكشف عن أنّ تصوير زيارة المجوس كان من أحب الرسوم الجداريّة إلى قلوب الوثنيين المتنصّرين، فالمشهد لا يصوّر حدثًا من طفولة يسوع وحسب، بل يبيّن أنّ غير اليهود مدعوون أيضًا إلى تقديم الإكرام الواجب للمسيح، وأنّ الكنيسة لا تنحصر فى أبناء إبراهيم، أى اليهود، بل إنّها تشمل كلّ مَن يؤمن بالمسيح فاديًا ومخلّصًا. فليس فيها فرق «بين يهودى أو يونانى، وليس هناك عبد أو حرّ، وليس هناك ذَكَر أو أنثى» (غلاطية ٣: ٢٨).. وعليه، يصوّر مشهد زيارة المجوس مريم العذراء جالسة على عرش والطفل يسوع على ركبتيها، والمجوس يقتربون منها حاملين الهدايا بأيديهم المغطّاة بطرف ردائهم. وثابر المسيحيّون على استعمال الخطوط العامّة لهذا المشهد بعد السلام القسطنطينى، ورسموا شخصيّات أخرى كالشهداء أو العذارى أو الملائكة بدل المجوس، وأخذ هذا النمط اسم صاحبة الجلالة، لأنّه يصوّر العذراء جالسة على عرش فاخر يشبه العرش الإمبراطورى، مرصّع بالجواهر الثمينة، وتغطّيه الأقمشة النفيسة. وتبدو على العذراء سمات الوقار والجاه. فقد أسقط الفنّانون مشاهد العظمة والأبّهة التى كانوا يرونها فى البلاط على مريم، للتعبير عمّا يكنّونه لها من إجلال واحترام. وتعكس كثير من الأناشيد الليتورجيّة مقام العذراء فى هذا الرسم. وخير دليل على ذلك ما جاء فى صلوات المدائح.
أما عن تنوع شكل الظهور الذى بدت عليه السيدة العذراء، فلا أجد غضاضة فى أن يراها كل شعوب الدنيا بالشكل الأقرب لثقافاتهم ورؤاهم، وإن كنت أتمنى الاتفاق على أهمية الاقتراب من ملامح أبناء المنطقة التى عاشت فيها هى وكل قديسى وشخوص الكتاب المقدس، بل إننى كنت أتمنى الاقتراب من «الآرامية» التى تحدث بها السيد المسيح والمناداة بالتعريف بها عبر المراكز العلمية المتخصصة لنقل كل ما روى رموز تلك المرحلة منذ بداية السنوات الثلاث الأخيرة من حياة السيد المسيح، وأرى أهمية أن تجد نفس اهتمامنا وتعلقنا باللغة القبطية.